تحدّي اليوم و أين نقف
طلال كنعان
المنسق العام
٢٤ أغسطس، ٢٠٢٠
يقول أرنولد توينبي “الحضارات لا تموت قتلاً، وإنما انتحاراً”. وفي سياقنا العالمي الذي تغلب عليه التحديات الغير مسبوقة والتي يعزّز بعضها بعضاً، وبينما نحن ننجرف بشكل أعمق وبوتيرة متسارعة نحو الفوضى، وعدم اليقين، ونحو مشاكل معقدة، فقد نشعر بأننا مخوّلين لأن نخشى أن تحذيرات توينبي تنطبق على مستقبل البشرية بحد ذاته، وليس فقط على حضارة معينة.
قد أدت الاضطرابات الاقتصادية العالمية التي سببتها جائحة كورونا إلى تفاقم الآثار الكارثية لتغير المناخ ، وكان لذلك عواقب مؤثرة على جميع أصعدة الحياة. و نرى عبر مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أزمات بلاد الشام ، وخصومات دول الخليج ، وحروب أهلية ، واستبداد راسخ ، وتوترات جيوسياسية تمزق المنطقة. ووسط كل هذا ، يجد المجتمع المدني نفسه مضغوطاً الى حد الانهيار.
وفي الوقت ذاته، فإن النزعة القومية ورهاب الأجانب في تصاعد، بينما نرى الحوكمة الدولية في حالة شلل وإخفاق متزايدين فيما يتعلق بالتعامل مع عدم المساواة وأوجه الظلم في العالم.
وفي وجه كل ذلك، من السهل جداً أن ندخل في حالة من اليأس.
عند وصفه لكل من التنمية والتدهور الحضاريين ، استخدم توينبي[1] مصطلح “التحدي” لوصف أكبر التهديدات والأحداث التي تواجه أمةً ما أو شعباً ، ومصطلح “الاستجابة” للإشارة إلى الطريقة التي اختارها الناس للتعبئة من خلال أساليب مبتكرة للتعامل مع تحدٍ كهذا.
في عالم اليوم المترابط والمتشابك ؛ لا يسعنا إلا أن ندرك أن التحدي الذي نواجهه جميعاً هو تحدٍ مشترك – حتى لو تباينت تجلياته بين البلدان والمناطق. إن كل جيل يواجه تحدياً حضارياً خاصاً به ، ويمكن أن تتراوح استجابته ما بين التقاعس والخمول إلى الجهد الجماعي المركَّز والموجَه نحو هدف. وفي ما إذا كان مسار العمل صحيحاً فإن ذلك يصبح واضحاً فقط مع مرور الزمن.
وفقاً لتوينبي ، فإن الاستجابة تتطلب رؤيةً وقيادةً وعملًا للتغلب على التهديد ولإنشاء أساس للبقاء [2]، وفي حالتنا ، لبناء عالم متناغم نفخر بتركه للأجيال القادمة. وفقاً لذلك ، يجب أن ترقى أي استجابة لمواجهة حجم التحدي الذي نواجهه – سواء كان ذلك بشأن العمل المناخي ، أو انتقال عادل إلى الطاقة النظيفة ، أو أساليب مستدامة لاستخدام الموارد ، أو نظام دولي عادل ومنصف ، أو تبني قيم التعددية والعالمية على مستوى الدولة أو المستوى المحلي – بشكل يجمع بين جميع المكونات المحددة من قبل توينبي.
تأسس منتدى الشرق انطلاقاً من أن الطريقة التي نستجيب بها هي اختيار ، وأنه على الرغم من حجم التحديات التي نواجهها ، فإن خيارنا هو التطلع إلى المستقبل من خلال عدسة واقعية ولكن متفائلة للغاية.
اليوم ، تتعامل شبكة الشرق الشبابي بنشاط مع الأولويات المحلية والإقليمية من خلال العديد من الأقطاب (التجمعات) – متمركزة في 15 مدينة تمتد من ماليزيا إلى تركيا إلى تونس إلى المملكة المتحدة – التي تشكل جوهر شبكتنا الدولية من الشباب الشغوف والملتزم بالقيم والمبادئ المشتركة.
إن شبكتنا هي شبكة تتعلم باستمرار وتهدف إلى استكشاف سبل مبتكرة للتواصل والتعاون ما بين الأقطاب. انطلاقاً من إيماننا بالتضامن ووحدة الغاية ، فإن هدفنا هو تحقيق توازن وتكامل الأولويات المحلية والشعبية مع الأولويات العالمية.
تماشياً مع مكونات الاستجابة ، وبشكل مُتَضَمّن في شبكته الدولية ، يعتمد نهج الشرق الشبابي على دمج ثلاثة مكونات – الرؤية والقيادة والعمل – لجعلها تعمل جنباً إلى جنب وبالتالي جعلها متكاملة. وهذا يضمن أن استجابتنا تركز بشدة على الأولويات الرئيسية والتحديات المنهجية بأشكالها المختلفة – كل ذلك ضمن مُثلنا ومبادئنا الأساسية للعدالة وإشمال الآخرين:
الرؤية – ديوان الشرق: لقد أدركنا أن وجود منبر أساسي للنقاش وفحص الأفكار التي ترسم معالم العالم هو أمر مهم، وذلك باللغتين العربية والإنجليزية. من خلال جلسات أسبوعية ونصف أسبوعية ، يستضيف الديوان مثقفين ومؤلفين وناشطين لمناقشة مواضيع مختلفة بصورة معمقة.
القيادة – زمالة الشرق: هو برنامج زمالة متكامل يهدف إلى تمكين القادة الشباب ذوي الإمكانات العالية والملتزمين بالخدمة العامة وقيم العدالة وإشراك الجميع. نسعى لتحقيق ذلك من خلال مرافقتهم في رحلة تجمع بين التعلم الميسر والإرشاد وبرامج القيادة المركزة والمشاريع المتوجة ، بصورة تأسس شبكة من دعاة التغيير الملتزمين بتحديهم للوضع الراهن.
العمل – منصة تأثير: مساحة يمكن من خلالها ترجمة الأفكار إلى واقع من خلال العمل المستنير. بصفتها حاضنة اجتماعية للمبادرات والمشاريع المدنية ، تحشد منصة تأثير أشكالًا مختلفة من الدعم (مثل التمويل الأولي والمتطوعين والمرشدين وغيرهم) للمساعدة في بلورة المبادرات والأفكار التي تركز على المجتمع المدني و لتضخيم أثرها.
من الاحتلال والظلم المستمر في فلسطين ، والقمع السياسي الوحشي والديكتاتورية ، و الركود الاقتصادي والفكري ، نجد منطقتنا تنادي من أجل جيل جديد مُجهز بالوعي اللازم لتجاوز هذا الواقع البائس – للتفكير والتصرف وتخيل العالم من جديد.
هذه هي الحال فيما يتعلق بضرورة وجود مساحات مثل منتدى الشرق. في أوروبا ، نجد كراهية الأجانب والشعوبية والقومية والإسلاموفوبيا في حالة تزايد يومي و انتشارعلى خلفية المظالم الاقتصادية التي سببتها العولمة والرأسمالية. في جنوب شرق آسيا ، أصبحت قضايا التنمية والاستقرار والازدهار ملحة أكثر من أي وقت مضى- سواء كان ذلك بخصوص الظلم في كشمير ، أو أزمة اللاجئين الروهينجا ، أو قانون الهوية في الهند ، أو معسكرات اعتقال مسلمي الأويغور في الصين. ومع ذلك ، فإن العديد من هذه الأزمات لا تلقى سوى أصداء خافتة في الدول العربية والدول ذات الأغلبية المسلمة.
إلى أين؟
عندما سئل عن الطائفية في وطنه لبنان ، عبّر الكاتب أمين معلوف بشكل مثالي عن الكم الهائل من القضايا التي يجب على المنطقة والعالم التغلب عليها في السنوات القادمة ، وعن الضرورة الملحّة والجهود القصوى المطلوبة: “التغلب على مشكلة كهذه يتطلب إجراءات جليّة وشجاعة وطوعية ، تتم على مدى عدة عقود.”[3] إن احتمالية تعايش عالمي جديد، كونفيفينسيا[4] ، يجمع بين الشرق والغرب لتحقيق قيم التعددية وإشراك الجميع ، حيث يتم القضاء على الاستبداد والديكتاتورية ، ويتم نبذ كراهية الأجانب والتحيز ، بشكل يجعل وجود حكم عادل يشمل الجميع هو العرف السائد – في دمشق أو بغداد أو بلفاست – قد يبدو أمراً شاقاً وغير واقعيٍ من وجهة نظر حاضرنا المستقطب.
ومع ذلك ، فإنه عندما نكون مجهزين بالخيال والطموح ، والأدوات والنماذج الذهنية الصحيحة ، فبإمكاننا تجاوز قيود تفكيرنا الحالي. بإمكاننا أن نستند إلى عمل أولئك الذين سبقونا وبإمكاننا أن نقدم ركائز للأجيال القادمة. بعبارة أخرى ، يمكننا أخيراً أن ندرك أن الاستجابة الناجحة للتحديات التي نواجهها – مهما تطلب الأمر من الصبر والعمل الجاد – هي في متناولنا جميعاً.
[1] أرنولد ج. توينبي (1889 – 1975) ، المؤرخ البريطاني المعروف بعمله “دراسة للتاريخ” وهو عبارة عن 12 مجلداً يتتبع تطور وانحلال الحضارة العالمية في سجل تاريخي ، مطبقاً نموذجه على كل من مراحل الحضارة: التكوين (الولادة) ، النمو ، زمن الاضطرابات ، الحالة العامة ، والتفكك. تم تطوير نظرية توينبي للتحدي والاستجابة في هذا السياق.
[2] يورجن شمانت وسي.إتش وارد – التنمية المستدامة: تحدي التحول ، مطبعة جامعة كامبريدج.
[3] مقابلة مع أمين معلوف حول كتابه “غرق الحضارات”: https://www.lorientlejour.com/article/1168245/amin-maalouf-i-was-born-healthy-in-the-arms-of -a-dying-civilization.html
[4] تستخدم كونفيفينسيا، والتي تعني التعايش باللغة الإسبانية، بشكل شائع للإشارة إلى نموذج التعايش والتعددية الدينية الذي ازدهر في شبه الجزيرة الأيبيرية في العصور الوسطى – عندما ازدهرت الحضارة والإبداع وسط التأثيرات المندمجة للديانات الإبراهيمية الثلاثة.