روح الدين
- اعلن لنا طه عبدالرحمن أنه لا يؤمن بالحياد الإنساني ، فيستحيل أن يقول مفكر أو كاتب بالحياد ، لأنَّ الانسان لا يكتب الا من خلفية قيم وافكار ذاتية ، فهو يعلن ان الحياد في قضايا الانسان زعم لا يجوز ، وأن قضية هذا الكتاب هو الحديث عن الدين والسياسة ، لانه يعتقد ان هدف الدين الاسمى هو التعبد وهدف السياسة هو التدبير ، فالحديث هنا عن مفهوم التعبد ومفهوم التدبير ، فالفصل بينهما لا يصح ولا يجوز ، لا عقلا ولا تطبيقا ، فهذا الكتاب سيعرض هذه الافكار في فصوله حتى يصل في فصله الأخير إلى النظرية الإئتمانية.
- عندما يتعرض طه عبدالرحمن لفلاسفة الغرب يأخذ فكرهم كانهم هم الذين اسسوا نظرية الفصل بين عالم الروح وعالم الدنيا ، فيفصل بين افكاره وافكارهم و”ينقضها” ، معتمدا على الأصول الفلسفية لكبار فلاسفة الغرب.
- المقاربة التي سيناقشها بين الدين والسياسة في الكتاب ليست مقاربة تاريخية ولا اجتماعية ولا دينية بل هي مقاربة “ذكرية غير نسيانية”
كيف ذلك؟ يقول أن أهم ما يميز الانسان هو النسيان ،فالإنسان نسي كل شي سبق على وجوده الارضي ، بما في ذلك شهادته على نفسه أمام الخالق: “الست بربكم قالوا بلى شهدنا …. ” وبعد ما ولدنا في هذه الدنيا خسرنا هذا الذكر واستبدلناه بالنسيان ، فالإنسان نسي الامانة التي كان قد حملها ، والوجود أكبر من عالم الكون الذي نحن فيه ، فالوجود سابق عليه ولاحق بعده ، فالله تعالى جمع هذه الكائنات واشهدهم على انفسهم في الحياة السابقة ، وشهد الله على الانسان.
- المشكلة الرئيسية هي أين أودعت هذه الشهادة ؟ يقول طه أنها توجد في الفطرة السليمة ، فالله استودع فيها هذا الذكر الذي هو سابق للخلق الدنيوي ، ولكن الفطرة مع الزمن طرأ عليها ما حرفها عن الذكر الأول فانحازت إلى الدنيا ، وبدأت تهيمن الجسمانية على حركة الإنسان، فكل ما يتعلق بهذا الجسم من تفاعل مع الدنيا ومن مصالح أصبح الأساس ، فنسي الإنسان ، وحتى يعود مرة ثانية ينبغي أن يتذكر.
:عرض الملخص
الجزء الأول:
- ينفي مسلمة أن الإنسان له وجود احادي وليس مزدوجا ، وخرج بمصطلح (الإنسان الأفقي) في مقابل ( الأنسان العمودي) ، فالانسان الافقي هو ذلك الانسان الذي انوجد في الأرض من أحساسيس ومشاعر وغايات وعقائد ، والانسان العمودي هو الانسان الذي تواجد مع الروح، فهو انسان عمودي قاصد نحو الذات العليا .
- عندما تقتصر على ما هو افقي تمشي في عالم الدنيا (المال، السلطة ، الشهرة، القوة، …) ، ولكن يوجد طريق ثان تتجه فيه أيضا نحو (الروح ،الذكر ،الارتقاء ،الاخلاق ) ، والكتاب يريد أن يجيب على كيفية التعامل مع هذين البعدين ، من غير اقتصار على بعد واحد، فأنت تتقدم في الدنيا ولكن في نفس الوقت تصعد ، فهذا يحقق لك الانوجاد في عالم الارض والتواجد في عالم الروح ، (النظرية الإئتمانية) كما يصفها المؤلف تحقق لك التقدم في الدنيا والصعود باتجاه الآخرة ، من دون فصل بين البعدين، فهو ينفي ضرورة ان يكون الانسان ذو بعد واحد ، فهو يقول ان النظرية الغربية هي نظرية افقية واخلاقها افقية ودينها افقي ، وان الانسان الغربي اسس في المنظومة الافقية دينا خاص فيه لخدمة الدنيا ، فلذلك مصطلحات الاخلاق في الدنيا اصبحت منفكة عن الروح ( جاك جان روسو عن الدين الطبيعي وكذلك غيره مثل كانط ودوركهايم وفيري)
- تكلم العلمانيون (تلدها نيون) في قضية الاخلاق محاولين الغاء مرجعيتها الدينية الإلهية ، فجعلوا الضمير أحيانا هو المرجع وأحيانا المجتمع ، فحلت هذه المرجعيات مكان الإله ، بل صارت هي الإله، وبالفعل تشكلت أخلاق عملية وظيفية في الغرب، إلا أن هذه الاخلاق صنعت في بعد افقي مجردة عن مصدريتها الدينية وغايتها التعبدية، فمثلا كلمة “تضامن” خلق أفقي، يقابلها في الإسلام (التراحم) ، وهو مصطلح يستوعب التضامن ويتجاوزه بأن يضيف اليه بعدا تعبديا عموديا، فنحن نرحم من في الأرض حتى يرحمنا الله .
- (فكرة الجسمانية) وفقا لطه عبد الرحمن ليست الجسمانية وصفا أحاديا ، بل متعددة المستويات، فالجماد له جسمانية مختلفة عن النبات وعن الحيوان، وجسمانية الانسان آلطف من غيره، بالإضافة الى أن الإنسان ليس جسما فحسب، بل فيه مكونات أخرى كالمخيال ، والذاكرة وطلب الارتقاء والرؤى ، وهي مكونات غير مادية، وتنتمي إلى عالم الروح، ولذلك فطه عبدالرحمن يقول عن الانسان انه كائن أقرب إلى الطير منه إلى الزواحف، لان فيه الجسد والروح .
- كل التعريفات الخاصة بالانسان في الفلسفة الغربية (الإنسان حيوان ناطق) أو (حيوان سياسي) أو (انا اشك فانا موجود)،(أنا أفكر أنا موجود) … كلها اختزالية جاءت من وحي البعد الأفقي المنفصل عن الروح والمؤمن بمسلمة قصور الوجود الإنساني.
- الغيب : يقول طه ان الغيب هو كل ما غاب عن عينك في الوقت الحالي ، سواء أكنت رأيته وغاب عنك أو لم تره أصلا ، (الفرق بين الغيب والشهود) ، وبما أنني عندما اغيب عن المشهد فإنني أفترض أن المشهد لا يزال موجودا ، فهذا يفترض ضمنيا وجود شاهد حفيظ ، فالاله القائم بذلك هو من يشهد ويحفظ ما غاب عنا، ولذلك ينبغي يجب ان يكون الإله مفارقا للذات الانسانية، محيطا بالوجود بكل أبعاده، حتى يحفظ ما غاب عن وعي الانسان والا لانعدم الوجود بغياب الذات العاقلة المدركة لوجود الأشياء.
- سبب الانسان هو ان يتجرد الفعل الإنساني عن الدين، لا سيما السياسة بما أنها تدبير شؤون الدنيا، فيسير الفعل الإنساني في البعد الافقي الدنيوي، ويكون بذلك مختلا وغير مكتمل ، ولذا فإن طه يسعى في الفصل الأول إلى “ابطال مسلمة قصور الوجود الانساني” ، يبطلها عقلا، لأن الوجود الانساني عير مقتصر على بعد واحد، ولذلك فهو ينتهي إلى القول بمسلمة (تعدية الوجود الانساني).
ملاحظة عامة : يقول ان الغرب يتكلم عن ظواهر الطبيعة من برق ورعد وغيرها ،والقرآن يصفها بأنها آيات ، فالفرق بين الاية والظاهرة هو الفرق بين الافقي والعامودي ، فكان الظاهرة هي محايدة لا غاية لها ، اما الاية فهي ظواهر ذات غاية او هدف.
الجزء الثاني:
– يبدأ طه عبدالرحمن بمعنى رئيسي أسماه (مسلمة تعدية الطبيعة الإنسانية)
– الكتاب في الأساس يناقش إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي دون تناقض مع ما ناقشناه سابقاً في كتاب الدولة المستحيلة لوائل حلاق إلا أن طه يطرح زاوية مختلفة تماماً عن التاريخية في النقاش بل مقاربة أسماها (الفكرانية).
– حسب طه فالمصطلح يحمل قيمة أصلية عضوية ذاتية، فالمصطلح المترجم هو منتج تاريخي محمل بأبعاد المكان والمجتمع والسياق المختلف.
– الحضارة الغربية الحديثة أنتجت الفصل بين السياسي والديني فاعتبرت أن السياسي يتعامل مع عالم الدنيا من خلال العقل والعلم والمنطق (أطلق عليه طه التدبير) بعكس الديني الذي يتعامل مع الغيب ولا يمكن إدراكه بنفس الحواس والقواعد، وعليه أصبح الديني هو الغيبي في حيز الممارسة والحرية الفردية والسياسي هو المرئي، هذا الفصل هو المُؤسس لكافة المنظومات السياسية فلسفيا.
– مقصد الكتاب هو محاولة بناء منظومة لفهم الدين، يطلق عليها طه (المنظومة الائتمانية)، من خلال استلهام الآية الكريمة: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فالإنسان مؤتمن على قيم أساسية طبعت في فطرته وذاكرته الأصيلة القديمة، لم يكتسبها ولا يمكن التخلص منها وغير مرتبطة باختياره وذلك قبل أن يحضر إلى عالم الشهود المرئي (الدنيا) أي قبل ولادته، لذلك العقل لا دور له في ذلك، بل يعتبر أن (الشهادة الأولى) في هذه الآية هي جزء من روح الإنسان. – يسوق طه من وجهة نظره في الفصل الأول من الكتاب الإثباتات العقلية التي تصنف الإنسان كائنًا متعديًا مخالفاً النظرية الغربية التي تضع الإنسان في إطار جسده فقط وتفاعله المادي مع الطبيعة.
– أحد اللطائف الجميلة التي تم شرحها في الديوان السابق ونعيدها للتذكير أن الإنسان إما أن يكون أفقياً وإما أن يكون عمودياً، والحالة المثلى التي يتحدث عنها الدين هو أن يكون الإنسان في حال أفقيته متجهاً إلى الأعلى، كما يشير إلى عملية التشهيد في هذا السياق وهو أن تأتي بالغيب وما شهدت عليه في الذاكرة الأصلية وتنزله إلى عالم الدنيا، فهو يعتقد أن الدين هو الأداة الأمثل لتنزيل العالم الغيبي (المزروع في الذاكرة الأصلية) في تطبيقات العالم الدنيوي وذلك من خلال ثلاثة مفاهيم رئيسية: الفطرة – التفاضل – التكامل
1.الفطرة:
– في إشارة قرآنية عن التذكر يقول الله سبحانه وتعالى: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) هذا السياق المكي يدعو القرآن إلى التفكر في الظواهر الكونية وكيفية تشكلها في مرحلة سابقة أي في الغيب، هذا التفكر القرآني باتخاذ أسباب المعرفة والعلم يقود إلى التذكر، ويرفع الظاهرة الكونية إلى مكانة الآية، فالإنسان في رحلة تذكر في الدنيا، لذلك عند انتهاء رحلة الدنيا وزوال عالم الشهود لا يعد للتذكر قيمة: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) وعليه فالإنسان العمودي متذكر، والأفقي ناسي
– فائدة: إن كان الإنسان الأفقي أقصى سعيه هو الدنيا ووجهته النهائية هي الموت فلماذا يفكر دائماً في تراثه وما سيتركه من خلفه ويحاول الاتصال بشكل من أشكال الخلود أو الوجود رغم انمحاقه.
– الإنسان الأفقي في أبشع تجلياته يلغي أي مرجعية سوى ذاته، وذلك شكل من أشكال التأله، وبسبب هذا التأله في الغالب يطغى الإنسان ويقتل ويفسد في الأرض بشكل غير مسبوق دون خوف أو وجل وبطمأنينة كاملة إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
– كما أن الطمأنينة في الإنسان الأفقي أحد شروط إنجازه ما يريد فهي كذلك في الإنسان العمودي يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة.
– فائدة في الاطمئنان – يقول النفري في الموافقات: (من علامات اليقين الثبات ومن علامة الثبات الأمن عند الروع).
– الحقائق الروحية الثلاث الأصلية عند طه:
- شهادة بالألوهية
- شهادة بالوحدانية
- العهد بالتعبد للإله وحده.
لماذا اختار طه هذه الحقائق الـ3؟ تنتج هذه الحقائق عن 3 أصول ذكرها طه في الكتاب في أعلى ص53، خلاصتها: تختلف الحقائق الروحية في مراتبها باختلاف أهميتها وكثافتها وقوّتها وأصالتها، فمنها ما تنبثق عنه حقائق عدّة أخرى (فالإيمان بالله أصلٌ ينبثق عنه الإيمان بالملائكة أو اليوم الآخر مثلًا، وبدون الإيمان بالله ووحدانيته فلن يكون هنالك معنى للإيمان باليوم الآخر).
وللقيام بفعل «التشهيد» يستلزم أن نكون شهدنا سابقًا أحداث هذه الحقائق، وبالفعل فقد شهدنا (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). وأعلى الحقائق رتبةً أكثرها تشهيدًا لأنها أكثف في حضورها في الذاكرة.
– الذاكرة الأولى منسوجة في الروح والفطرة، ولا يمكن استنطاق هذه الذاكرة سوى بالدين، وذلك يستدعي كيانًا أكبر يستطيع زرع الشهادة الأولى وإرسال الهدى للتشهيد والتذكر، فالله الأكبر من كل شيء يقتضي أيضاً حسب الاستنتاج السابق أن يكون واحداً. وقلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم من هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون
– يعتقد طه أن الإلحاد مناقض لذاته، فالإلحاد يرى أن لا يمكن أن يكون هناك فاعل سوى الإنسان، وحيث أن الإنسان ناقص فالطبيعة من حوله تقتضي أن تكون من فاعل أكثر كمالاً.
– لطه في الكتاب ردود على الإلحاد جميلة جداً يمكن الاستزادة منها ويعرض إلى (اللا أدريين) المشتقة من (لا أدري) Agnosticism وهي طائفة تلخص موقفها في الشك وعدم قدرة العقل على اتخاذ قراراً، وعليه يكون السؤال، هل تشك في شكك ؟ وكيف بنيت على شكك يقيناً؟
– الفطرة تحمل في نسيجها الألوهية والوحدانية فالاتصال بهذا الإله الواحد وعبادته أيضاً جزء من فطرته، فإن لم يعبد الإنسان الله سبحانه بالفطرة.. ستجده يعبد شيئاً ما كالعلم أو الشجر أو الحجر مثلاً.
- التفاضل:
– لا يمكن أن تكون كافة الأديان سواسية، حيث أن التشهيد هو تنزيل للغيب على الواقع، وواقع الإنسان على مر الزمان متغير متبدل، فذلك يحتاج في النهاية لدين متعد لهذه الإشكالية، فمن كمال التشهيد أن تتبع كمال الدين، وكمال الدين في هذه الحالة هو الدين الفعال الأكثر قدرة على التعاطي مع الواقع والتفاعل معه باستمرار، لا يمكن مساواة دين قديم جامد محصور في مكان وزمان معين، بدين قادر على توليد معاني متجددة تتفاعل مع الواقع دون زمان أو مكان معين.
– التفاضل حكم على علاقتي بالدين لا المتدينين، فالكل مدعو طوعاً لاختيار الدين الذي يعتقد أنه الأفضل للاتصال بالغيب حتى وإن كان اختياره منافياً لما أعتقد أنا أنه الصواب وذلك من الحقوق الإنسانية الكبرى، فالتشهيد مسؤولية واختيار وتحقق فردي ورحلة يجب أن يعبرها الإنسان دون إجبار، يصل في هذا التحقق إلى علاقة من الحب والاطمئنان بالله لا بالجبر أو النفاق.
– العلم والعقل لا يمكن أن يكونا بديلاً للدين، بل يحتاجان للدين، الحاجة الفطرية للدين إن تم محاولة التحايل عليها أو إلغائها ستجد أن مساحة الخرافات في العقول تتضخم، ومن التفكر في الظواهر الكونية يتعطل ويدخل الإنسان في طور عبادتها، ولذلك يجب أن تتحول مرجعية العلم من عالم الشهود إلى عالم الغيب، فتنفتح آفاق العقل من التفكير والتحليل في قواعد الوجود المحدود إلى الاتصال بالغيب واحتمالات اللامحدود.
– يقول طه: أن التفاضل متطلب إجباري، فعندما تتقدم الأديان لتحرير العقل والعلم، فالإسلام هو الكامل التام جاء على أطوار كالطور النوحي (فقد سمي نوح مسلماً) والطور الموسوي والطور الخاتم المحمدي، واقترن كمال الدين بتمام النعمة أي العقل وهو المتطلب الأساسي لكي ينطلق الإنسان من الارتهان لعالم الشهود المرئي إلى رحابة الائتمان الروحاني والاتصال بالعالم العلوي. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
– التسامح في الغرب بديلٌ لتعدد الأديان، فطه يعتبر مفهوم التسامح الغربي ناقصا، ويعتبر أن الأكمل هو مبدائية المساواة، لأن التسامح هو غض طرف عنك كمزعج مثلاً لا قبول بحق مساوٍ لك في التدين والاختلاف في الدين.
- التكامل وشمول التشهيد:
– في البحث عن الدين الأفضل والأكمل يقول طه أن أحكام هذا الدين يجب أن تتسم بالاتساق والاتساع، متسقة أي مترابطة فيما بينها ومتماسكة في منطقها (أصول العقيدة – أركان العبادة – قوانين التعامل – قواعد الأخلاق) والاتساع أي متعلقة بأفعال الإنسان كلها.
– المبادئ الأربعة الناظمة للنسق الداخلي للدين:
- أصول العقيدة: ينظمها الإيمان
- أركان العبادة: ينظمها مبدأ العمل
- قوانين التعامل:ينظمها مبدأ العدل
- قواعد الأخلاق: ينظمها مبدأ الخير
– وحدة الشهود لا تعني وحدة الوجود، فوحدة الشهود والنسق الواحد الذي يميز الكون وسننه وانتظامه صادرة من الألوهية والوحدانية المبثوثة في الفطرة لا تناقض فيها وبانسجام كامل في لحن واحد من التسبيح، فالله لا يحل في المخلوقات بل مفارق في الذات والصفات.
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)
– أخيراً: الاتساع يؤكد انسجام المتقابلات لا تناقضها، فعالم الشهادة من تجليات عالم الغيب، والدنيا مطية للآخرة، والعقل لا يناقض القلب فالأول فعل الثاني، فالقلب هو الكيان الشامل للفعل العقلي والروحي معاً، لا يمكن للإنسان أن يتعقل دون أن يكون له قلب به قدر من الروحانية والاتصال بالغيب فذلك مصدر من مصادر المعرفة المختلفة عن العقل.
(لهم قلوب لا يعقلون بها)
– الأصل في الأحكام التركيز على المقاصد حتى نستطيع أن ننزلها في المكان والزمان دون أن تتعارض مع بعضها البعض، فالانحباس في أقوال الأولين يقطعنا عن التشهيد ويوقعنا في الخلل ويتعارض مع كمال الدين وتمام النعمة.
(الْيَوْمَ اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)
– فكرة التكامل الديني تجيب على أربعة متطلبات إنسانية:
- سؤال المعنى وعلامات الاستفهام الوجودية أين وكيف ولماذا
- السعادة، والاطمئنان لهذه السعادة المتصلة بالعالم العلوي
- الكمال والبحث عن الإتقان المستمر، ويرفعه طه في مقام التكامل من خلال عرض الإحسان من أجل التعبد فهو أعلى من مراتب النجاح الأرضي.
4. مطلب الخلود، وذلك نزوع فطري في الإنسان وشواهده كثيرة حولنا، وعوضاً عن استثمار الإنسان في إبقاء صورته وتراثه في عالم الشهود، فالتشهيد ينقل الخلود إلى عالم الغيب. والله أعلم.
الجزء الثالث:
– العمل السياسي: التدبير الإنساني في الأرض بمعناه الواسع.
تدبير الاختلاف بينك وبين نفسك، بينك وبين غيرك، بين المجموعات، كلهُ تدبير سياسي.
– التشهيد أن تأتي بالغيب وتعكسه وتعكس معانيه في الواقع. والتغييب أن ترفع الواقع الأرضي إلى عالم الغيب.
– السياسة تتجلَّى بشدة في امتلاك السلطة والقوَّة، لماذا؟
الإنسان الأفقي يعوِّض الغيب والتسامي في حياته بتأليه نفسه، فيجعلُ نفسه ذاتًا متسلطة متسيدة، وينزع نحو السلطة، التي هي صفة من صفات الألوهية، والتفرُّد في السلطة صفة من صفات الوحدانية.
– في كل قصة من القصص القرآنية، هنالك نموذج معرفي متكامل يصلح لكل زمان ومكان، فليست القصص مجرَّد تاريخ، لأن الله قال (لقد كانَ لكم في قصصهم عبرة)، فهي عبرة دائمة. في القصص القرآني نموذج لفعل إنساني مُتكرر حتى قيام الساعة.
هنالك نموذجان في الفصل الثالث يتصارعان:
أ- النموذج الأول، فرعون:
(إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)
المرحلة الأولى:
علا في الأرض، وجعل أهلها شِيعًا:
تفرُّق الناس أساس من أساسات السلطة وسبيلٌ للتفرد بها، وبتقسيمه لهم كان مفارقًا لهم، أي كانَ مختلفًا عنهم، وليس من طبقتهم، وعلوُّه علوٌّ تسيّدي.
فرعون استباح طائفة دونَ باقي الطوائف، وأخاف الناس منهم، وهذا نمط متكرر في التاريخ الإنساني. وبهذا الفعل، أضاف لعلوّه علوًا سمح له بأن يكون مُسيطرًا ومُتعاليًا عليهم.
المرحلة الثانية:
خاطب عموم قومه بالربوبية، واصفا نفسه بأنه ربهم، لما له من ملك مستقر وما بناه لهم من اقتصاد زراعي قائم على تنظيم الأنهار وحصص السقاية ، وهذه مقومات الاستقرار في المجتمع الزراعي،اما ما وصف به موسى فهو انه ينازعه في الملك، مضيفا عنصر التخويف على دعوة موسى لا سيما وان موسى من قوم أدنى
(وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)
وذكّر قومه بأن موسى من بني إسرائيل، الفئة المُستباحة ، وتمكنهم (علوهم) الذي سيخل بالواقع الفرعوني المستقر، وحقّر من موسى وأمره وقومه.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)
اما في خطاب فرعون مع النخبة، (الملأ)، او دائرة حكمه الضيقة فلم يستخدم الربوبية بل الألوهية، كان خطابه متألهًا، ونفى وجود شريكٍ لسلطته، فهو متسيّد لوحده.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)
السلطة بطبعها متطلبةٌ للتوسع والاستزادة. والإشكالية الكبرى ليست في السلطان نفسه، وإنما في خوف الناس منه أو طمعهم باقترابهم منه أو الانتفاع به، أو خوف الناس من خوف يظنون أن صاحب السلطة يعصمهم عنه، كخوفهم من أن يحلّ الخراب والحرب إذا زال الحاكم أو السلطان، وأيضًا يخافون من موت السيّد وغيابه وكأن وجود الناس وتدبير أمورهم مرتبط بوجوده هو ولا أحد غيره.
– السياسة أفضل طريقة لفعل التغييب.
– من غرائز النفس:
1- حب التسيّد: فيطلُب الشهرة، ويكذب في الأقوال، ومن صفاة المُتسيّد عدم التجرد من الأغراض، أي لا يفعل شيئًا بقصد الخير وإنما من أجل المصلحة المحضَة، ثمَّ، يتملق الناس بكلام جميل وحسن، ويعرض مصالحه في غلاف الأخلاق.
2- العبودية الطوعية: لِما لها من فوائد، كالاستقرار والأمن، وبُعد الأذى في غياب السيّد.
يحاول السلطان أن يصل إلى الملكوت، أي أن يبسط سلطانه على أوسع مما جُعل خليفة عليه.
الجبروت أن تنتقل من القوة الممنوحة لك بإضافة قوَّات وقدرات أخرى غير شرعية تغلب الناس بها. وبانتقاله للجبروت والملكوت يُضفي على نفسه صفة المُقدَّس، وهذا عينُ فعل التغييب في التدبير السياسي، إذ يُضفي على نفسه صفةً من صفات الله جل وعلا، كصفة التقديس عليها، أو السيادة، وبذلك يكون رفّع مقام الواقع إلى رتبة الغيب.
حالة التسيّد هذه تجعل الإنسان يعتقد أنه مَلَكَ مُحيطَه، فيتجبّر ويضفي على نفسه القدسية فيتأله ويرفع الواقع إلى مقام الغيب.
والسلطان الطاغي تشيع صفاته في القريبين منه، فيعملون بها في الناس ويحملونها ويتصفون بها. وهذا ما فعله قارون، فبعد أن فتحَ الله عليه، نسب ما رُزقه إلى نفسه. قال جلّ وعلا:
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ..) ثم:( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي). هُنا الأنا المُتضخمة وتجلي الإنسان الأفقي الذي ينسى.
– هنالك فرق بين الخوف والخشية:
الخوف أن تخاف ممن لديه القدرة والغلبة أن يُلحق بك العقوبة.
والخشية تكون خوفًا عن علم يؤدي بك إلى التقرّب والتقوى.
ولذلك قال الحقّ تبارك وتعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
– مفهوم الطاعة في الإسلام للحاكم، طاعة مُستنيرة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
والله جل وعلا قال أطيعوا الله، أطيعوا الرسول، ثم ألحق بهم أولي الأمر ولم يقل «أطيعوا»، والخلاف بين المسلمين مرجعه لله (الكتاب الكريم) ورسوله (سنّته).
ب- النموذج الثاني، نموذج سليمان ويُوسف عليهما السلام:
سليمان عليه السلام، يُمثّل نموذجًا آخر أسمى وأرقى.
لمّا جاءته الهدايا من قوم بلقيس، أجابهم بقوله:(…أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)، ما آتاني الله، نسب الخير والفضل لله جل وعلا.
وهذا ما حصل عندما رأى عرش بلقيس مستقرًا عنده، فقال عليه السلام:(…هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)، مرةً أخرى، ينسب سيدنا سليمان عليه السلام الفضل والغنى لله جلّ وعلا وكلّ ما لديه من قدرات ومعرفة.
معهُ في هذا النموذج سيدنا يوسف عليه السلام، بعد أن سجدَ له إخوته، ذكر فضلَ الله عليه:(رَبِّ قَدْ آتَيْتنِي مِنَ الْمُلْك وَعَلَّمْتنِيمِنْ تَأْوِيل الْأَحَادِيث).
– النبيّان عليهما السلام نموذج للتدبير التعبّدي. وفرعون نموذج للتسيّد السياسي التسلّطي. كلا النموذجين عبرة لنا لنعرف مآل النموذجين.
الجزء الرابع:
1- الروح: وهي ذاتٌ سابقة للنفس وخُلقت قبلها.
نحن مفطورون قبل الوجود الدنيوي على القيام بالأمانة (إنَّا عرضنا الأمانة) : الإيمان بالله والتعبّد له. الذاكرة السابقة هي وعي دفين وأصيل، لا يمكن لك الابتعاد عنه أو تركه، لا يمكن لك أن تتركه بإرادتك واختيارك لأنه وعيٌ سابق لتشكّل وعيك وإرادتك.
الروح حاملة للفطرة، وهي فطرةٌ أصلية ثابتة لا تتغير ولا تتخلف ولا تتبدل، والروح مُحمَّلةٌ بالفطرة بطريقة تُلزم الإنسان بحقائق وأصول روحية، هي:
أ- الشهادة بالألوهية.
ب- الشهادة بالوحدانية.
ج- العهد بالتعبد للإله الواحد.
هذه الحقائق هي الحقائق الأولى والأساسية والأصيلة، وهي حاضرة في حياة الإنسان رغمًا عنه لأنها طبعت وجوده وتكوّنه.
2- النفس، نبتٌ أرضي، وهي مُقابلة للروح في فلسفة طه عبد الرحمن، وهي الأنا والذات.
النفس لها تفاعلان مع الروح: تفاعل إيجابي يُنصت للروح، أو تفاعل سلبي يعيشُ انفصامًا عن الأصل المؤسس للذات الإنسانية، عن الروح.
– الائتمانية نظرة فترة سابقة للثنائيات، كانت تقتصر على الروح والفطرة وهذا قبل الاختيار، بعد أن تدخل الحياة، يبدأ الاختيار: لك أن تسلك مسلكًا أفقيًا أو عموديًا.
– التعبد أمرٌ ملازم للإنسان حتى موته، لأنه أصيلٌ في ذاكرته السابقة التي سبقت تكوينه، وتعبده إما أن يكون لله بالطريقة الصحيحة، التي جاء بها التشريع، أو أن تعبد إلهًا طاغوتًا: نفسك، هواك، المال، الزعماء، وكل ما دون الله.
الذات الإنسانية ليست مخيرة في أن تتعبد أو لا تتعبد، أن تؤمن أو لا تؤمن، هي كذلك: بالطبع والفطرة، ولكن بمَن ستؤمن ولمن ستتعبد؟
الإنسان يمرُّ بثلاث مراحل:
1- الإشهاد:
عندما أشهدنا الله جلّ وعلا:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..)
2- الحياة الدنيا: تبدأ بالولادة، فتصير صاحبَ خيار: تتذكر أو تنسى.
وباقي الآية المذكورة أعلاه يقول:( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)
وكأن الحقّ تبارك وتعالى يرفضُ أي عذرٍ للتناسي، ويحمل المُتناسي مسؤولية تناسيه.
3- الانتقال لدار الآخرة: الآن تموت
(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
في ذلك الحين تعود إلى ظروف العالم الأول، عالم ما قبل الدنيا، فتتذكر لحظة الشهادة وحملك الأمانة، وحينها يُرفع عنك الحجاب.
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ).
أسوأ ما قد تفعله في حياتك أن تجعلها هجرانًا لما قبلها وما بعدها.
– الدين تكرّم من الله وتفضّل لتوجيه الإنسان نحو الربوبية، لمَ هو تفضل ونعمة؟ لأن الله خلقنا بالأصل على طبيعة تُقدرنا على الإيمان بالله.
– الله سبحانه لا ينهانا عن أمور لمجرد النهي فحسب، الله ينهانا لمصلحتنا حتى لا ننزاح عن الفطرة السليمة التي هي أداة الإنسان التي يُراهن عليها للوصول إلى الله.
– النفس حاملة للتدبير والسعي، أما الروح فحاملة للفطرة والذاكرة السابقة. وكلاهما، يجب أن تتلاحما معًا.
– الظواهر والآيات:
الظواهر الطبيعية التي نراها كل يوم من حولنا بوابة للوصول الى الخالق، كيف؟
اذا نظرت وتأملت في الظواهر فأنت تبحث عن الكيفية. ( أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت)، فان عثرت على الكيفية في الظاهرة الواحدة فسيرتقي البحث في الظواهر الاخرى ليوصلنا الى نسق موحد جامع، اي السنن والقوانين الطبيعية، التي تربط الظواهر المتعددة، وتجمع شتاتها، وتؤسس لقواعد فهم وقياس تنطبق على ظواهر اخرى.
القوانين الناظمة للظواهر تقودنا لسؤال (لماذا؟) وهنا تبدأ مرحلة البحث عن السبب المؤسس لهذه القوانين، والبحث عن السبب سيرسلها للبحث عن المسبب اي الموجد او الخالق.
إذن الظواهر تتحول في هذه المرحلة الى آيات على وجود الله وصفاته، والآيات المبثوثة في الكون تناظرها آيات في الكتاب الموحى به، وفهمهما معا يقودنا الى تمام المعرفة.
الربوبية والألوهية
1- عن الذات الإلهية صدرت الصفات: التخلق بالصفات يؤسس لأخلاق كاملة، والاخلاق تتبدى يوميا في قواعد ومعاملات واحكام، وهو الفقه، فالأخلاق هي عقل الفقه، والفقه هو الصورة التطبيقية للدين، ويتبدى الدين والفقه في حياتنا اليومية عبر السلوك.
2- السلوك مرتبط بالدين، الدين يُوصل إلى الأخلاق، الأخلاق توصل إلى الصفات، الصفات تُوصل إلى الذات.
ننزل من الأعلى إلى الأسفل في هذا السلم باستخدام الروح، ونصعد من الأسفل لأعلى في هذا السلم باستخدام النفس.
أطلق الروح لتُنزل عليك المعاني الإيمانية الكبرى، ثم أطلق لنفسك ملكات التجرّد من عوالق الدنيا، تفكّرا وتدبّرا وتأملًا وتمنطقًا وتعقلًا.
وتحرّكك في كلا الاتجاهين: تُفلح.
الانوجاد والتواجد:
الانوجاد: أن تكون في الدنيا وتحاول أن تعلو.
التواجد: أن تكون في عِل، وتحاول أن تُنزل المعاني التي استلهمتها من عالم الروح إلى العالم الأرضي.
والإنسان في حالة مزدوجة من الانوجاد والتواجد، فهو منوجد في الحياة الدنيا ومتواجدٌ في العالم العلوي في ذات الوقت، لا يستطيع فكاكًا من هذا الازدواج لأنه مفطورٌ عليه.
التشهيد: سعينا لإنزال الحقائق العلوية إلى عالمنا، وأن يرى الإنسانُ الوجود السابق في كل شيء في الحياة، وقد قال المتصوّفة (مَن لم يرَ الله في الدنيا لن يراه في الآخرة)، أي مَن لم يرَ تجلي صفاته جل وعلا،
التغييب: الظواهر الأرضية والممارسات اليومية، تعكسها إلى أعلى حتى تصل إلى العبودية والألوهية.
– العقلانية الكاملة عند طه: التقاء العقلين: العقل التجريبي والعقل المُسدد الذي يتنزل بالمعاني من عالم الروح.
الأخلاق سابقةٌ للدين، لأنها انبثقت عن الصفات، والدين انبثق عن الأخلاق. وظيفةُ الفقه أن يُوصلك إلى الأخلاق، فإذا لم يفعل الفقه: فليسَ بفقه، وعقلُ الفقه وروحه: الأخلاق.
وقد قال الله جلّ وعلا:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)
وقد أمرَ الله أولًا بإقامة الصلاة، فإذا كنت قائمًا بالصلاة ولكن فيها ثقلًا عليك فتابع في إقامتك لها، حتى تنهاك عن الفحشاء والمنكر، وقد قال الإمام ابن عطاء الله السكندري:« لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك فى وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، و من ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، و من ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور، و ما ذلك على الله بعزيز»، والحقّ تبارك وتعالى قال:«والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا».
من المهم أن نعرف أنَّ الفعل التعبّدي الجسدي، إذا لم يرتبط بفعل أسمى: تفكر أو تعبد أو تدبّر، لم يكن ذا جدوى.
الإنسان الأفقي لديه 3 صفات أساسية:
1- النسبة: ينسبُ كل شيء لنفسه. كما فعل قارون وفرعون، والذين يُكثرون من قول أنا فليحذروا هذه مسألة خطيرة، والنص القرآني فيها واضحٌ جدًا:
(ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا)، (ولا تزكّوا أنفسكم)، بل يقول جلّ وعلا:(أنفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه) أنت مُستأجر في هذه المهمة، وهنا نفى الله عن الإنسان مُلكه للشيء، ثم جعله مُستأمنًا عليه.
عظيم جدًا:(ألم تكن أرض الله واسعة..).
أي شيء سيحول بينك وبين فعل التعبّد فهو مُشكلة:(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) أرضُ الله، لا أرضك التي تحصر نفسك فيها، والأرض هنا مثال وغيرها كثير مما يحجب الإنسان عن فعل التعبد.
2- السلطان: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، السلطة مطلوبة إذا كانت تعبدًا، أما أن تتجسد فيك فكرة العلو والتسلّط والسيادة والجبروت فهذا منازعة لله في ملكوته.
3- العنف الناتج عن الصراع: عنف الإنسان مع الآخرين لاعتقاده أنه المركز، أنه الأحد (وهذا شكلٌ من أشكال التغييب، حيث يستدعي الإنسان معنى الأحدية ليُجلّيه في نفسه، ليكون أحدًا).
على الإنسان أن يسعى لالتصاق روحه بنفسه، وأن يكون تدبيره تعبّدًا وتعبّده تدبيرًا.