homodeus

هومو ديوس

:عرض الملخص

الأجندة الجديدة للبشرية THE NEW HUMAN AGENDA”  

يقول يوفال أنه لطالما كانت المجاعات، والوباءات والحروب هي المعضلات الثلاث الرئيسية في حياة البشر. أعجزت هذه المعضلات الإنسان لفترة طويلة من حياته على الكوكب، ودفعته إلى اختراع فكرة الإله وفكرة وجود ذات علوية مُفارقة للإنسان كالإله. ظلتَّ هذه العوامل الثلاث سبباً رئيسياً لموت الإنسان، فدفعت المُفكرين والأنبياء لترديد القول إن ما يحصل هو من قدر الله لهذا العالم المليء بالخطايا والمعاصي.

لأول مرة في تاريخ البشرية تنقلب الآية، ويموت الناس من الطعام الزائد والتخُمة أكثر من موتهم بسبب المجاعات. ومَن يموتون بسبب تقدم السن أكثر من الناس الذين تحصدهم الوباءات، ومن المُثير للاهتمام أن الذين يموتون انتحارًا أكثر من الذين تنالهم يد الحرب أو «الإرهاب».

ظهور البيوتكنولوجي وتكنولوجيا المعلومات كقوة بارزة في عالمنا تدفعنا لنسُلط الضوء على الأحوال الراهنة منذ بداية القرن الواحد والعشرين ثم نستكشف أجندة الإنسان الجديدة مع غياب هذه العوامل والمحرّكات الثلاث.

 THE BIOLOGICAL POVERTY LINE  خط الفقر البيولوجي

بقيت المجاعات أحد أهم المعضلات في تاريخ البشرية، عندما كان الجفاف يسود مصر القديمة أو الهند، كان من الطبيعي أن يهلك جوعًا 5-10% من الناس.  معظم البشر اليوم لم يجُربوا شعور الجوع، ولكن أجدادنا والإنسان القديم يعرفونه جيداً وناشدوا الله قائلين: “يا رب احمنا من هذه المجاعة!”. اليوم انتقل خيار المجاعة إلى يد الإنسان، وأصبح أداة في يد القوى السياسية لا نتيجةً لفقر وجفاف الطبيعة أو انعدام وسائل منع المجاعات، حتى الإنسان الذي يفقد وظيفته يجدُ مؤسسات دولية ومحلية تعينه على تحصيل قوت يومه وتساعده على “البقاء”، أيّ أنه لا يموت جوعًا.

 في عام 2014، أكثر من 2.1 مليار شخص يعاني من السمنة مقارنة بـ850 مليون يعانون من سوء التغذية.

   INVISIBLE ARMADAS القوات غير المرئية

كانت الأوبئة ثاني أخطر أعداء الحياة الإنسانية، ومن أشهر الوباءات وباء «الطاعون» أو «الموت الأسود»، انطلق في بدايات عام 1330م، في مكان ما في الشرق أو في وسط آسيا، وكان انتقاله بواسطة الجرذان والفئران فانتشر في آسيا وقتل 75-200 مليون شخص، ما يساوي أكثر من ربع سكان آسيا وأوروبا.

في العصر الحالي قلتّ خطورة الأوبئة واستطاع الإنسان التعامل معها بتقنيةّ فائقة، فأوبئة اليوم لا تقتل الملايين كما كانت تفعل في السابق، لنتذكر عندما ظهر فايروس انفلونزا الطيور أو فايروس انفلونزا الخنازير هزّا العالم ولكن نسبة الذين أصُيبوا بأحدهما لا تقُارن بنسبة الإصابة بالأوبئة في السابق، والفضلُ في ذلك للجهود الضخمة التي بذُلت في قطاعات الطب والتداوي والتغذية.

 BREAKING THE LAW OF THE JUNGLE  كسر شريعة الغاب

خبرٌ عاجل! الحروب ستنتهي قريباً.

لطالما كان تاريخ البشرية حافلاً بالدماء والحروب، وكانت حالة الحرب هي الحالة الدائمة بدلًا من حالة السلم، ولكن –وفقاً لنوفال- انتقلنا اليوم إلى حالة السلم كحالة دائمة وحالة الحرب كحالة استثناء، وذلك رغم أنّ العلاقات الدولية اليوم تقوم على «الصراع» أو ما يمُكن أن نسميه «شريعة الغاب»، على الرغم من كل ذلك بدأت أدوات العصر بإبراز نموذج جديد.

في المجتمعات الزراعية «Agricultural Society»، تسببّ العنف الإنساني بمصرع أكثر من 15% من البشر، لكن، في القرن العشرين قتُل 5% فقط بسبب العنف البشرية. اليوم نحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، وحتى الآن لم يتسببّ العنف الإنساني إلا بمقتل 1% من سكان الأرض.

عام 2012، 56 مليون شخص تعرضوا للوفاة ،120 ألف شخص قتُلوا نتاج الحروب ،500 ألف شخص بسبب الجرائم ،800 ألف أقبلوا على الانتحار، ولكن المُدهش في كل هذا أن مليوناً ماتوا بسبب داء السكري، باتَ «السكر اليوم أخطر من السلاح»!

الاقتصاد العالمي اليوم تحول من اقتصاد معتمد على الموارد إلى اقتصاد يعتمد على المعارف والعلوم. الحروب الالكترونية تقدر أن تهز استقرار القوى العظمى.

في المستقبل سنرى القنبلة المنطقية Logic Bomb، وهي فايروس يعمل على تخريب الأنظمة، ويمُكن لهذه القنبلة أن تشُكل وتسبب حروباً بين الدول في المستقبل.

المستقبل يطرح تساؤلات مختلفة في غياب المجاعات والأوبئة والحروب. ما هي الأجندة الجديدة للبشرية في القرن الواحد والعشرين؟ وفي غياب «المعاناة» و«الألم» و«الفقد»، وكل المشاعر المُوجعة، ماذا سنفعل بأنفسنا؟ ماذا سيفعل العلماء والمستثمرون والرؤساء؟ ما الذي سيشغل بال الإنسان حينها؟ كتابة الشعر!؟

أحد أهم الإشكاليات التي على البشرية أن تجد لها حلاً هي مشكلة التوازن البيئي.

هدف البشرية القادم هو الخلود والسعادة، ونحن سنعمل على الارتقاء من كوننا بشرًا  Homosapiens  إلى آلهة Homodeus

 THE LAST DAYS OF DEATH آخر أيام الموت

في القرن الحادي والعشرين سيكون الهدف الوحيد للإنسان هو الخلود في الدنيا، ومحاربة التقدمّ في العمر نحو الشيخوخة. لم تقُدس الأديان والأيديولوجيات «الحياة»، وإنما قدست ما بعد الحياة، قدست الموت وما بعد الموت، ورأت أن ما بعد الحياة جميلٌ ورائع) في حال كان الجنةّ( أو سيء )في حال النار.(

بماذا قد تفيدنا الأديان دونَ فكرة الموت؟ تخيلّ الإسلام والمسيحية والبوذية وماذا يمُكن أن تقدم إذا لم يعد هنالك موت، حينها لا أهمية لأجوبة هذه الديانات عن فكرة الموت وما بعد الموت.

العلوم الحديثة تفُكّر في الموت بشكل مختلف، وتراه إشكالًا «تقنياً»، لا فلسفياً أو دينياً، الموت مُشكلة تحدث في جسم الإنسان وليس «إرادة الله» أو «الخطة الكونية للبشرية»، مُشكلة تقن يةّ كأي مشكلة جينية أو أي مرض آخر، سيستطيع العلم أن يعُالجها من خلال التقدم والتطور العلمي والتكنولوجي .

العالم بدأ يغُيرّ تصوره عن الموت، فعلى سبيل المثال أطلقت جوجل شركة تهتم بعلاج «مشكلة» الموت. كذلك، أحد مؤسسي المنصة المالية الشهيرة «Paypal»، بيتر ثيل، يقول أنه يسعى ليعيش للأبد. أما بعض المختصين فيرون أن الإنسان سيتخلص من مشكلة الموت في غضون عام 2200.

حلّ مشكلة الموت لا يعني بالضرورة أن الإنسان الخارق) سوبر إنسان!( لن يموت، فقد يقُطع رأسه أو يسقط من مكان عال أو يدُهس ..الخ، ولكن المقصود أنه لن يموت دون سبب خارجي كالأمثلة التي ذكرناها.[1]

العمر الطويل وتأخّر أو انتهاء الموت مسائل مهمة، سيكون لها أثر عميق على نوع العلاقات التي سنعيشها.

لنفكّر معاً: تخيل لو تزوجت في سن الأربعين ومُتوسط عمرك المحتمل هو 150 سنة، هل تستطيع أن تستمر في علاقة زواج مع نفس الشخص لأكثر من قرن؟ 110 سنوات. حتى الكاثوليكيين الأصوليين سيصعب عليهم استيعاب هذا الأمر.

ماذا عن عملك أو وظيفتك؟ ماذا ستفعل مع مديرك الذي قد يكون عمره 110 سنوات عندما يعُاملك بأفكاره القديمة؟ هل تتخيل بوتين رئيسًا 90 سنة إضافية؟) وهنا أقول هل تتخيل محمد بن سلمان ملكًا للسعودية 110 سنوات إضافية؟ يا لطيف (! .

معلومة: في عام 1900م، متوسط أعمار الناس المُحتملة لم يتجاوز الـ 40، اليوم متوسط العمر المحتمل تضاعف ليصبح 80 عامًا.

 THE RIGHT TO HAPPINESS الحق في السعادة

ثاني أهم مشروع في تاريخ البشرية -في الغالب- سيكون البحث عن مفاتيح السعادة.

أبيقور، الفيلسوف اليوناني القديم، يقول إن عبادة الآلهة مضيعة ٌ للوقت ويرى أنه ليس هنالك وجودٌ بعد الموت.

الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام يرى أن الهدف الأساسي للسوق والدولة هو زيادة «السعادة العالمية Global Happiness»، السياسيون عليهم أن يخلقوا السلام، والتجار عليهم أن يحققوا

الازدهار، لا من أجل المَ   لك أو الإله، ولكن فقط ليجعلوا الحياة أكثر سعادة.

السعادة تتحقق من خلال بعُدين ثنين، البعد النفسي والبعد البيولوجي ،والسعادة تعتمد على توقعات الإنسان وليس لها معايير موضوعية نحقق السعادة من خلالها.

«الكيمياء الحيوية Biochemistry» الخاصة في أجسامنا هي مصدر السعادة الحقيقي وذلك من خلال الأحاسيس اللطيفة والممتعة، العقل وتفاعلاته الكيميائية والكهربائية هي التي تفرز هرمون السعادة وما دون ذلك هو فقط توقعات وتصورات مختلفة. في الذاكرة التاريخية اعتاد الإنسان أن يشعر بالسعادة عندما يأكل طعامًا معيناً أو شراباً معيناً، ولكن هذه ليست الحقيقة الكاملة، الحقيقة هي تلك التفاعلات الحيوية والكيميائية داخل أجسادنا وعقولنا.

 THE GODS OF PLANET EARTH آلهة كوكب الأرض

في الحديث عن السعي إلى النعيم والخلود، البشرية اليوم تحاول أن ترتقي إلى مستوى الإله وأن تأخذ صفاته، وتحاول فعل ذلك من خلال التحكم في بيولوجيا الإنسان وجيناته، لتتخلص من «الشقاء» وكبر السن.  إذا استطعنا أن نسيطر على نظامنا البيولوجي، بيولوجيا الإنسان، ستكون لدينا القدرة على التلاعب بأنفسنا، وسنستطيع إعادة تشكيل حواسنا وذكائنا ومشاعرنا وأجسامنا بطرق مختلفة وكثيرة جداً.

في سعينا للوصول إلى الألوهية هنالك 3 طرق: الهندسة الحيوية Biological Engineering، هندسة السايبورغ Cyborg Engineering، هندسة الكائنات غير العضوية Engineering of non-organic beings.

منذ بداية قصة الإنسان على الكرة الأرضية، كان التغيير الجيني) التعديل الجيني( للصنف البشري يتم من خلال «الانتخاب الطبيعي»، في البداية حدث تغيير بسيط هرموني وجيني حوّل الـHomo erectus )بشر لديهم مستوى ذكاء ضئيل وبالكاد يستطيعون صناعة السكاكين من حجر الصوان(، تحوّل هذا البشري إلى Homo Sapiens، الذي هو نحنُ الآن، نحن الإنسان الذي يصنع

الحاسوب وصواريخ الفضاء ويطوّر التكنولوجيا.

  • الهندسة الحيوية الآن تستطيع إعادة كتابة الشفرة الجينية الموجودة في كروموسوماتنا، ويمكن لها إعادة تركيب الدائرة الكهربائية للعقل، ومن ثمَّ تغيير الكيمياء الحيوية للجسم، والنتيجة: مخلوق جديد بصفات جديدة نحن نحُددها ونختارها!
  • هندسة السايبورغ ستتقدم من خلال دمج الأجزاء العضوية من الإنسان، أعضاء الإنسان الطبيعية، مع الأجهزة غير العضوية كالأطراف الالكترونية والأعين المصنعة وغيرها من ملايين النانو روبوتس التي ستوجه تيار الدم لأجسامنا.
  • هندسة الكائنات غير العضوية اليوم تجعلنا نستغني عن هندسة الأجزاء العضوية. الشبكة

 . Intelligent Software ستبُدل ببرنامج ذكية Neural Networks العصبية

اليوم أدواتنا ومؤسساتنا مختلفة جداً عن أدوات ومؤسسات «زمن الكتاب المقدس»، ومتى ما استطاعت هذه التقنيات والأدوات إعادة هندسة العقل البشري، سيتلاشي الإنسان العادي وسيحلّ مكانه الإنسان الإله.

إذاً ثالث أكبر مشروع ومهمة للبشرية: أن نمتلك القوة الإلهية للخلق والموت) قال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فاتي بها من المغرب فبهت الذي كفر(،ومنها سنتطيع أن نهزم الآلهة القديمة بابتكار أدوات أفضل.

عملية الانتقال من كوننا بشرًا إلى آلهة عملية تدريجية تبدأ باندماجنا مع الآلات والكمبيوترات، وأثناء بحثنا عن السعادة والصحة والقوة، ستغيرّ البشرية خصائصها شيئاً فشيئاً حتى تفقد البشرية خصائص الإنسان الحالي وتنتقل إلى الإنسان الإله.

CAN SOMEONE PLEASE HIT THE  هل  يمكن لأحد أن يوقف العجلة؟ BRAKES?

يتمنى الناس الموتَ عند سماعهم عن إمكانية أن يصُبحوا بشرًا خارقين «Superhumans»، «أتمنى أن أموت قبل أن يحدث هذا». يخشى الناس أن تكون أحلامهم وهوياتهم ومعتقداتهم غير منطقية ولا مرتبطة بالواقع المُعاش، ولكن هل الموت الذي ينتظرهم يجعلهم مُتصلين بالواقع؟ على الإنسانية أن تتحد لتحل معضلة الموت، وبحلهّا نتحول إلى آلهة بأحلام وهويات لها شكل جديد ومختلف. ) يذُكّر بنداء ماركس: يا عمال العالم اتحدوا.(!

العلم والتكنولوجيا يتقدمان بسرعة لا يمكن أن نضع لها حدوداً ومقاييس الإنجاز اختلفت، ما نظنه بعيد المنال أصبح مُمكناً أن يتحقق بعد عشرين عامًا، وما يقُال عنه مستحيلاً سنحُققه في أقل من 50 عامًا. لذا، ستكون مهمة الأفراد والمؤسسات والحكومات جوابُ سؤال: كيف نخلد ونحقق السعادة ونملك القوة الإلهية.

طول أعمار الأفراد في العالم سيعيد تعريف «سن التقاعد»، ومن ثمَّ سُيعاد تعريف وترتيب النظام الاقتصادي المحلي والعالمي وستفتح فرص لأعمال مختلفة وأنماط مختلفة من العمل، ولا نستطيع أن نتحكم في كل هذا، العجلة تتحرك وتمضي ولا أحد يعرف من أين يوقفها، لا أحد يستطيع أن يجمع النقاط ويرى الصورة الكلية، لا يوجد أحد يستطيع أن يتخيل الاقتصاد العالمي في مستقبل كالذي نتحدث عنه. لا أحد يملك البوصلة الحقيقية ليخبرنا إلى أين نتجه، وبما أن هذا النظام غير مفهوم لن يكون من الممكن إيقافه.

اليوم يستطيع العلم من خلال تعديل الـDNA دمجَ أكثر من بويضة واختيار أفضل مزيج ممكن، وهكذا نستطيع أن نصنع الإنسان الخارق الذي لا يحمل أيّ أمراض وراثية.

الخطوة القادمة لخلق الإنسان الخارق أو الإنسان الإله هي تعديل الجينات وإعادة برمجتها لتصير نسخًا معدلة ومحسنة، وبهذا نستطيع أن نتجنب جميع الإعاقات والآثار الجانبية، سيصبح هذا الشيء عالم ياً وتنافس ياً بين الدول، لأن ما نتحدث عنه سيفرض نمط اقتصادي عالمي «رأسمالي» مُختلف.

 THE PARADOX OF KNOWLEDGE  مفارقات المعرفة

نبوءة سعي الإنسان الحديث للخلود والنعيم والقداسة نبوءة قد تغُضب البعض، لذلك سنضع التوضيحات التالية:

  1. هذا التغيير ليس بفعل بعض الأفراد في القرن الواحد والعشرين، وإنما هو الفعل والإرادة الجمعية للبشرية. لأن المجاعات والأوبئة والحروب انقرضت تقريباً وبالتالي ستفُرض أجندات جديدة على البشرية.
  2. ثانياً، هذه تنبؤات تاريخية وليست شعارات سياسية، نحن نسعى تاريخياً إلى أن نصل إلى هذه اللحظة التاريخية، لحظة الخلود والنعيم الأبدي، حتى ولو أدت إلى مقتلنا.
  3. ثالثاً، الوصول إلى الشيء مختلف عن الحصول عليه، لطالما كان التاريخ مليئاً بالأحلام المفرطة والمبالغ فيها، الشيوعية الروسية كان تحاول أن تحل أزمة عدم المساواة بين البشر، ولكنها لم تنجح في ذلك، هذا الكتاب هو محاولة للتركيز على ما ستحاول البشرية في القرن الواحد والعشرين إنجازه، وليست محاولة معرفة ما ستنجح في إنجازه. مستقبل الاقتصاد والمجتمعات والسياسة سيتشكّل بناء على محاولة حل معضلة الموت.
  4. رابعاً، هذه التوقعات هي بالحقيقة ليست نبوءات وإنما محاولة لنقاش الخيارات الواقعية الحالية.

المعرفة التي لا تغيرّ السلوك هي معرفة عديمة الفائدة، والمعرفة التي تغير السلوك بشكل سريع تفقد مكانتها. شيئا فشيئا تزداد صعوبة توقع المستقبل، وذلك لكمية المعلومات والأحداث التي يجب أن نجمعها ،أما تاريخياً فتوقع المستقبل كان أكثر سهولة وذلك لقلة المعلومات التي علينا حصرها.

 A BREIF HISTORY OF LAWNS تاريخ مختصر للمروج

يدرس المؤرخون التاريخ طلباً لحكمة الأجداد والأسلاف لنعكسها على واقعنا، ولكن باتَ من المستحيل أن نتعامل اليوم مع الواقع بهذه الطريقة. التاريخ يجب أن يدرس لا لنستعيد تصوراته وإنما لنتحرر منه ونتعامل مع الواقع المعقد الذي نعيشه اليوم .حتى نغيرّ العالم، يجب أن نعيد صياغة كتابتنا للتاريخ، وبالتالي نسمح للناس أن يعيدوا التفكير في المستقبل.

اليوم إذا أراد شخص أن يعمر بيتاً جميلاً، سيطلب من المهندس المعماري أن يصمم له مرجًا جميلاً، ولكن لماذا يريد مرجًا؟ لأنه جميل فحسب؟ في الحقيقة يوجد تاريخ خلف هذه الرغبة. لطالما كانت المروج انعكاسًا لطبقة حاكمة وغنية في المجتمعات القديمة، التاريخ يشكل وعينا وقرارتنا حتى في التفاصيل الصغيرة في حياتنا، لذا علينا أن نعيد كتابة التاريخ بحيث نستطيع أن نتحرر من معتقدانا التي ورثناها وشكلت وعينا.

البندقية سيدة الموقف A GUN IN ACT I  

كل الأفكار والتنبؤات التي يطرحها الكتاب ليست إلا محاولة لمناقشة المعضلات المُعاصرة، ودعوة لتغيير المستقبل. أن تتنبأ أن الإنسان في المستقبل سيحظى بالخلود والنعيم والقدرات الإلهية هو كتنبؤ أن شخص ما يريد أن يبني في بيته مرجًا في الباحة الأمامية.

منذ 300 عام بدأت تيار جديد يسمى «الإنسانية Humanism» وهي فكرة تدعو لتقديس الحياة والسعادة والقوة للإنسان العادي، محاولة ً الارتقاء بالبشرية لكسب الخلود، والقدرات الإلهية هي النهاية المنطقية لهذا التيار الإنساني. أصبحت الإنسانية الآن دين العالم الحالي وما دون ذلك سيؤدي إلى تفكك البشرية وانهيارها.

الإنسان العادي يحاول أن يتناسى الواقع أنه بالأصل ينتمي لفصيلة الحيوانات، لكن من المهم جداً أن نتذكر أصولنا عندما نسعى ونحاول أن نتحول إلى آلهة، هذا سيجعلنا أكثر حصانة عندما نتعامل مع الإنسان الإله والإنسان العادي.

الناس دائما يخافون التغيير لأنهم يخافون المجهول، ولكن الثابت الوحيد في التاريخ هو أن كل شيء يتغيرّ.

[1] المترجم: ولكن ماذا يعني أن تصبح الحياة بدون مغامرات؟ حياة مملة؟ لماذا الخلود الذي يتكلم عنه لا يمكن أن يعُالج فيه مشكلة هذه الحوادث؟ أليس هو الإنسان الإله الذي يستطيع أن يتحكم بكل شيء؟.!

  The Serpent’s Children | أبناء الأفعى

الأدلة الأنثروبولوجيا والآثار المُتاحة تقترح أن الإنسان القديم كان وثنياً) animists( منذ عصر الصيد )Archaic Hunter-gathers(، أي أنه يؤمن بوجود وقدسية الأرواح بالطبيعة والحيوانات والجمادات، ما زال يوجد اليوم مجتمعات مُشابهة للإنسان القديم بنفس الطقوس القديمة، كالسكان الأصليين في أستراليا وغيرهم.

يرى الوثنيون الإنسان كحيوان ولكن من نوع مُختلف. جاء الأنجيل بطرح يقول إن الإنسان هو مخلوق مختلف وأسمى من المخلوقات الأخرى، وأن أي محاولة للاعتراف بالحيوان الذي بداخلنا هي مُحاولة للحد من قدرات الرب وسلطته.

من السائد اليوم غربياً أن أصل الإنسان من القوارض، وذلك لدلالات علمية عن المخ وتش كله وبعض الأبحاث عنه. عندما اكتشف «الإنسان الحديث» أنهُ منحدر من القوارض فإنه تم رد على الرب وعصى كلامه، وأدى ذلك للتشكيك بوجود الإله من أصله!

 Ancestral Needs| حاجات الأسلاف

الإنجيل من النتائج الثانوي ة للثورة الزراعية ومعه الاعتقاد باختلاف الإنسان وتميزه، ما أطلق مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والحيوان.

في السابق تواجد أقل من 200 صنف من الحيوانات التي تعُتبر حيوانات أليفة، وعُدتَّ صغيرةً مقارنة بآلاف الحيوانات البري ة، ولكن، مع تقد م الحياة صارت أكثر من 90% من الحيوانات الكبيرة حيوانا ت أليفة) domesticated(، هذا التح ول كانت له توابع وخيمة وكارثية على الحيوانات، لماذا؟ في القديم كانت «الحاجات» تلُبى وتتطور بشكل طبيعي بالتوازي مع «الانتخاب الطبيعي» المرتبط بتطوّر الحيوانات. من المفروض أن هذه الحاجات تطوّرت حتى وصلت إلى الشكل الحالي، ولكن الزراعة غيرّت كلّ ذلك: رفعت ضغوطات «الانتخاب الطبيعي» عن الحيوانات بين ليلة وضحاها )بعد أن كانت تتم في مدة زمنية طويلة(، ولكنها لم تغير الدوافع المادية والعاطفية والاجتماعية .

مثالً: الإنسان في أوروبا وغرب آسيا تطوّرت لديه القدرة على هضم الحليب البقري، والأبقار

تكيفّت وفقدت الخوف من الإنسان وصارت – مقارنتها بأسفلها- تنتج كميات كبيرة من الحليب، ولكن هذه التطورات «سطحية»، لأن المنظومات الحسيةّ والعاطفية لدى البقر لم تتغير منذ العصر الحجري.

خُلاصةً الكلام: الحاجات العاطفية للحيوان تم تجاهلها وإخراجها من المعادلة.

  Organisms are Algorithms | الكائنات الحية خوارزميات

«أحاسيس» و«حاجات عاطفية»؟ إنها لغة إنسانية تؤنسن الحيوان وتعُمم صفة «الثدييات». لنتذكر هنا أن علوم الأحياء في العقود الأخيرة أثبتت أن العواطف هي عبارة عن خوارزميات عضوية

وكيميائية ضرورية لبقاء وتكاثر الثدييات، ولنفهم أهمية هذه الخوارزميات علينا أن نفهم معنى الخوارزمية بشكل جيد، لأن مفهوم الخوارزمية مفهومٌ مهم في الكتاب، وأي اضا، مفهومٌ مركزي في العالم اليوم.

الخوارزمية بشكل مختصر هي المنهجيةّ) الطريقة( التي ت ستخدم أو ت تبّع للقيام بعملية حسابية ما ،لحل مشكلة معينة أو للتوصل إلى قرار  محدد.

مثالً ، لحساب متوسط رقمين نقوم بالتالي:

أو الا – نجمع الرقمين.

ثانيا- نقسم المجموع على 2.

هذه الطريقة بخطواتها،) أو الا ثم ثانيا(، هي منهجية إيجاد متوسط الرقمين ،هذه المنهجية هي الخوارزمية.

لنفكّ ر في آلة صنع القهوة؛ تختا ر أن ت عدّ قهوة بالحليب، تضغط ز ارا وتنتظر قلي ا لً ثم يكون الفنجان في يدك! ماذا عن مرحلة إعداد الفنجان؟ بعد أن تضغط الزر تبدأ خوارزمية )أو منهجية( إعداد القهوة بالعمل ،فت وضع كمية معينة من القهوة وي ضاف إليها ملعقة من السكر ومقدارٌ  محدد من الحليب ،منهجية التحضير لا يتدخل فيها الشخص الذي طلب القهوة وإنما هي عملية تقوم بها الآلة وفقا للخوارزمية المبرمجة مسبقا.

علينا أن نربط مفهوم الخوارزمية بنظرية التطور لنفهمها بشكل أفضل، ففهم الخوارزمية يساعدنا على فهم الآليات المكتسبة لدى حيوان أو فصيل معينّ. العواطف والإدراكات والأحاسيس كلها مجتمعاتها شكّل خوارزمية عضوية وكيميائية ت وجد في المخلوق الذي يتطور أو «يبقى» بناء على المتغيرّات التي يواجهها.

ولذا، فإن الخوارزميات هي التي تحدد القرارات التي يقوم بها الإنسان والحيوان، هي مصدر القرارات، وهذه الخوارزميات مجموعة ومزيج من الأحاسيس والعواطف والأفكار والرغبات. حتى الذين فازوا بجائزة نوبل للاقتصاد قلمّا يستخدمون الأوراق والأقل لاتخاذ القرارات، إن 99% من القرارات التي نتخذها وننفذها مبنية على الخوارزميات التي لدينا، والتي تكون بشكل كبير حدسيةّ، سواء كان ذلك للعمل او الزواج أو الحياة بعمومها.

ما ي ميزّ الثديات من الناحية العاطفية هو العلًقة بين الأم والابن) هذه العلًقة موجودة عند الإنسان والحيوان أي اضا(. شكّك علماء النفس بالارتباط العاطفي بين الآباء والأبناء، وكان السائد أن تلك العلًقة هي علًقة مادية فحسب، ولكن بعد تجارب عديدة وعقود بحثية اجتمع علماء النفس والاجتماع على ترك المدرسة السلوكية/المادية للعلًقات الاجتماعية والأسرية ضمن الثدييات. ثمّ  وجد اعتراف وإدراك واضح لمركزية الحاجات العاطفية بالنسبة للثدييات .

من الجيدّ أن نذكر تجارب العالم النفسي الأمريكي هاري هارلو) Harry Harlow(، إذ كان يأخذ قرو ادا حديثة الولادة ويعزلها عن أمها، ثم عرض على القرود  دميتين إحداها حديدة ومعها غذاء ،والأخرى طريةّ وناعمة دون الغذاء، وكان الاختيار الثاني هو ال مفضَّل دائما. النتيجة العلمية الثورية هي إثبات الحاجة العاطفية لدى الثدييات كشيء موجودٍ بالفعل.

.

والتي تقول بأنه هناك بنية حتمية موجودة في كل الثقافات والمجتمعات على اختلافها و على مر الأزمنة، جُبل عليها –عقل- الإنسان تحُتم عليه نفس التصرف و ردة الفعل و السلوك الاجتماعي و الثقافي. بفرض أنه يمكن المقارنة والمشابهة بين الموقفين أو الحدثين. اللغة، مثلًا، هي أصرخ مثال علي أن عقلية الإنسان تتحكم فيها بنية واحدة مما يحدد خياراته وسلوكه ويوجههما.

) هذا الهامش إضافة خارجية للاستزادة وليس في متن الكتاب. (

أما اليوم فتقوم الصناعات الحلبية –الألبان والأجبان- وصناعات اللحوم بإعادة تجربة هارلو بشكل دائم على ملًيين الحيوانات، ولا تؤمن هذه الصناعات إلا بحاجات مادية للحيوانات، فتعمل على تحطيم الارتباط العاطفي الذي يميزّ مملكة الثديات، ف ي بعد الصغار عن الأمهات بعد الولادة بقليل و ت حرم الحيوانات من فرصة الدفء والعاطفة بين الأم وابنها وبين بعضها البعض.

  The Agricultural Deal | الصفقة الزراعية

إذا كان الإنسان القديم) الصياد( لم يدرك تما اما ما هي عواقب صيده وتصرفاته على البيئة فإن الإنسان الزراعي أدرك ذلك تما اما، وكان يعرف أنه يستغل الحيوانات الأليفة ويسخّرها لـ«رغبات وشهوات الإنسان»، فكيف استطاع الإنسان الزراعي أن ي برر أفعاله تلك؟

كان انتقال الإنسان من الصيد إلى الزراعة فرصة مناسبة لاختراع فكرة «الدين الإلهي».

مع الانتقال من الوثنية إلى الأديان الإلهية، بدأ الإنسان بفهم الكون بشكل مختلف، فصارت يتصوّر الكون بوجود شخصيتين اثنتين: الإله والإنسان، ولا شيء غيرهما! ومن ثمَّ صارت الجمادات والطبيعة أشياء هامشية وصامتة، وبذلك صار الإنسان محورًا للكون. وبهذه الطريقة برّرت الأديان الإلهية استعمال الإنسان للبيئة وهيمنته عليها، وبسبب ذلك كانت الأديان مؤسسات/ مشاريع زراعية، برّرت لكل ما يفعله الإنسان الزراعي من خلًل أساطير كونيةّ جديدة) من خلًل التصوّر الكوني الجديد. ( التصوّر الكوني القديم كان برلمانيا، وأعضاء برلمانه كلُّ المخلوقات، أما الآن صارَ التصوّر الكوني إله وإنسان فحسب.

في هذه الدراما الكونيةّ دَوران للإله:

  • شرح وتبرير سيطرة الإنسان على كافة أنواع الحياة في العالم) طبيعة، حيوانات، نباتات( واستغلًلها لمنفعته.

مثال: أكدت المسيحية على أن الإنسان موكل من الإله ليفرض سلطته على بقية الخلق.

  • وساطة الآلهة بين الإنسان والطبيعة. بمعنى أنه لا يمكن في هذا الكون للإنسان أن ي خاطب الطبيعة والنباتات والحيوانات بشكل مباشر كما كان يفعل في السابق.

على سبيل المثال: إذا أراد الإنسان حليبا من بقرة أو أراد محصو الا  وفي اراد أو أراد هطول المطر فإنه يتجه للآلهة بالصلًة والدعاء،  مقابل أن يقوم الإنسان بمشاركة المحصول مع الآلهة .هذا أساس الصفقة الزراعية.

معظم الأساطير) mythologies (والأديان الإلهية شرحٌ لهذه الصفقة بطرق مختلفة، هذه الصفقة التي غيرت بنية وأسس العلًقات بين الإنسان والبيئة/الطبيعة من حوله.

– قصة نوح والسفينة.

تقول الرواية الإنجيلية لقصة نوح أنه بنى السفينة بناء على أمر إلهي للنجاة من الفيضان، وأ مر بإنقاذ عدد من الحيوانات حفاظا على نسلها، وما أن استقرّت السفينة حتى قام نوح بانتقاء عدد من الحيوانات والطيور النظيفة لشويها كقربان للإله، وكان ردّ الإله إيجابيا وترحيبيا بهذا الفعل )سفر التكوين:8:20-1(. التفسير التقليدي لهذه الحادثة هو سيادة وقدسية الإنسان، مقابل عدمية ووظيفية الحيوان، أي أنه موجود لتأدية وظيفة تخدم الإنسان فحسب.

لم تخ ل الأديان الإلهية من إشارة إلى حقوق الحيوانات والرأفة بها ،كما في بعض القصص التلمودية ،وهناك أديان أخرى كالبوذية والهندوسية أكدت على صلة الإنسان بباقي المنظومة الطبيعية والمسؤولية الأخلاقية بالحفاظ على حياة كل كائن حي .ولكن هذه الأديان وجدت دو اما طرقها لتبرر سيادة الإنسان واستغلًله لكل شيء آخر )ضمن ضوابط هذه الأديان(، فاقترحت أن هنالك هرمية ا طبيعية في العلًقات بين الإنسان والأشياء تسم ح للإنسان بأن يستخدمها ويسيطر عليها .وبذلك التزم الإنسان بالصفقة الزراعية التي تعطي فيها القوى الكونية له سلطات معينة بموجب شروط وواجبات دينية يقوم بها .

ولكن العلًقة التسلطية بين الإنسان والحيوان انتقلت إلى نطاق آخر، تسلطّ الإنسان على الإنسان، وصار يمكن للإنسان أن يتملك إنسانا آخر ويستعبده، بل وأحيانا يقتله لأتفه الأسباب، بداية بالخطوة الأولى وهي نزع صفة الإنسانية عن الآخر) De-humanization(، سواء كان الآخر فر ادا أو جماعة مستهدفة. ولذا، كان الأسلوب الزراعي و«المزرعة» نموذجا معتم ادا لبناء مجتمعات جديدة فيها طبقات ت ستباح ووحوش ت عدم، وكل ذلك يتم بمباركة إلهية.

  Five Hundred years Of Solitude | خمس مئة سنة من العزلة

وقعت ثورة في العلًقة بين الإنسان والحيوان بسبب تقدّم العلم الحديث والصناعات.

في الثورة الزراعية أسكتَ الإنسان الحيوانات والنباتات، ولكن في الثورة الصناعية تعالى الإنسان على الآلهة أي اضا وأسكتها، وصرنا نقف أمام كونٍ بلًعب واحد هو الإنسان، وما أن بدأ بفك شيفرات الطبيعة وقوانين الفيزياء والكيمياء حتى رأى نفسه إلاها فوق الكون، يفعل ما يشاء.

حدث هذا على الرغم من أن إسحاق نيوتن أحد أعمدة هذه الثورة كان مؤمنا بالله وكان ي مضي وقتا في دراسات الإنجيل والدين أطول من وقت دراسته للفيزياء، على الرغم من ذلك دفعت الثورة الإله خارجَ المعادلة نحو الهامش، لكن شيئا بقيَ من بعد نيوتن: الفضول الذي دفعه لاكتشافاته. هذا الفضول لدراسة الكون والأسطورة الإنسانية) أن الإنسان مركز الكون( هي ما ي درس الآن في مدارس العالم اليوم، ن حفز التلًميذ بقولنا: كلما سَ مونا علميا ومعرفيا فإننا نقترب أكثر من الجنة الأرضية .

الثورة الزراعية ولدت الأديان الإلهية، والثورة الصناعية ولدت الأديان الإنسانية، وصار الإنسان مكان الآلهة .الفكرة المؤسسة للأديان الإنسانية كالليبرالية والاشتراكية والنازية قامت على مبدأ أن الإنسان هو مخلوق مقدس وسامي، وهو مصدر كل المعنى والسلطة في الكون .

استطاعت الديانات الإلهية أن ت قدم سن ادا للديانات الإنسانية، فالأولى برّرت أفعال إنسان الزراعة، وأعطت الثانية تبريرات لإنسان الزراعة الصناعية، وتهدف هذه الديانات بشكل مطلق إلى تحقيق رغبات وشهوات الإنسان بدون أي اعتبارات أخرى، وأنتج هذا انعدا اما لاحترام الحيوانات والرأفة بها. هذه الزراعة الصناعية طغت على الحيوانات، فأصبحت تربية المشاية للحليب أو اللحوم أو البيض –كما أشرنا سابقا- تعتمد على المنفعة والعوامل المادية البحتة التي تحقق المطلوب والربح، كتربية أبقار محتجزة ضمن مساحات ضيقة لا تسمح لها بحرية، فض الً عن أي اعتبار للحاجات العاطفية والنفسية للحيوانات.

في السنين الأخيرة بدأ الإنسان بإعادة التفكير بالعلًقات الإنسانية-الحيوانية.

فجأة أصبح للإنسان اهتمام غير مسبوق بطبقات الحياة «الثانوية» في الهرم. ربما لأن الإنسان العادي أوشك على الانضمام لطبقتها؟ لنسأل: هل عندما تصبح البرامج الحاسوبية والذكاء الاصطناعي أكثر قوة وفاعلية من قدرات الإنسان سي صبح علينا أن ن قدّرها أكثر من الإنسان نفسه؟ هل من المقبول إذا أن تقوم الآلة )كونها أصبحت الشيء الأكثر ذكاء ، ومن ثمَّ الأعلى رتبها في الهرمية الكونية( باستعباد الإنسان وربما استغلًله أو حتى قتله لدفع مصالحها وحاجاتها، مثلما فعل الإنسان في الحيوانات؟

إن كان هذا غير مقبول حتى للآلات  مرتفعة الذكاء فلماذا إذا يباح للإنسان -أخلًق يا- أن يستغل ويقتل الحيوان؟ هل هناك ما يم يزّ الإنسان –شرارة/ مَلكة عقلية أو حسيةّ أو خيالية- ويعطيه أحقية لا يملكها أي مخلوق أو شيء آخر؟ وإن كان لا يوجد ما يميز الإنسان فما الحاجة لإعطاء الإنسان قيمة المضافة؟

يبحث الفصل القادم طبيعة وقوة الإنسان العادي) homosapein( لنفهم علًقتنا بالحيوانات بشكل أفضل، ثمَّ نستطيع أن نقيّم ما ينتظرنا في المستقبل، وربما نفهم شكل العلًقة بين الإنسان العادي والإنسان الخارق.

ونذكر أن يوفال استخدم هذه المقاربة الخاصة بالعلًقة بين الإنسان والحيوان –analogy– حتى يستطيع القارئ أن يتخيل شكل العلًقة المستقبلية بين الإنسان العادي و الإنسان الخارق/ الإنسان المتألهّ. والتي غالبا سيتأله فيها الإنسان الخارق على الإنسان العادي بشكل من الأشكال سي فصح عنه في الفصول القادمة. هذه الألوهية هي نتيجة طبيعية لتطور العلًقة المستبدة التي كانت -وستسمر- بين الإنسان والحيوان.

يوفال يرى –باختصار- أنه بما أن الإنسان أصله حيوان؛ و بما أن الشعور والحس اكتشف أنهم مجرد خوارزميات بيولوجية موجودة لدى جميع الكائنات الحية خاصة الإنسان والحيوان. فإن هذه الملكة ليست هي تحدي ادا التي تميز الإنسان عن بقية الحيوانات؛ ولا هي السمة المحددة لإنسان المستقبل والتي ست شكل على أساسها العلًقات بين الإنسان العادي والإنسان الخارق. هذا قد يهدد سير تيار الإنسانية المهيمن حاليا، لكن بانحساره قدت فتح آفاق آخرى أمام البشرية. وعليه، فإن سمات المستقبل والشخصيات الفاعلة فيه سترتكز على الاستغلال الفعاّل لهذه الملكة، التي تميز الإنسان فعالً عن غيره.

ما من شك أن الإنسان هو المخلوق الأكثر تأثيرًا في العالم، يحُب أن يفُكر أنه يتمتع بأفضلية «قيمية»، وأن قيمة حياته تفوق قيمة حياة الخنازير، أو الفيلة، أو الذئاب بكثير. يمُتعه أن يخُبر نفسه بأنه يتمتع بميزة/خاصية سحرية تفسر قوته الهائلة، ولكنه يستعملها أيضًا لتزوده بالمبرر الأخلاقي لتميزه. نحن كبشر نرُيد ونندفع نحو التصديق بأن حياة الإنسان أسمى بشكل أساسي. فما هي هذه الميزة/ الشرارة الإنسانية الفريدة؟

الإجابة التوحيدية التقليدية هي أن الإنسان وحده من يملك روحً ا خالدة. ففي حين أن الجسد يبلى و يتعفنَّ فإن الروح مصيرها إلى الخلاص أو اللعنة، فإما أن تخَبرَُ  الفرح الأبدي في الجنة، أو أن تخَلدُ في جحيم النار .

هذه ليست حكاية طفولية خيالية، و إنما خرافة قوية لأبعد حد! الإيمان بأن الإنسان يمتلك روح سرمدية وأن الحيوانات مجرد أجساد فانية هو حجر الأساس لنظامنا التشريعي، والسياسي، والاقتصادي. رغم أن آخر استكشافاتنا العلمية تناقض بشكل قاطع هذه «الخرافات التوحيدية». صحيح أنها أثبتت الجزء الأول من الخرافة وهو أن الحيوانات بلا روح، إلا أن نفس التجارب المعملية ق وََّ ضت، للأسف، الجزء الثاني والأهم من هذه الخرافة التوحيدية، وهو أن البشر يمتلكون أرواحًا.

لا يوجد اليوم دليل علمي واحد يقول بأ ن الإنسان، على عكس الخنازير، يملكُ روحًا. على كل حال؛ العلوم التطبيقية تشكك في وجود الروح ليس فقط لنقص الأدلة، و لكن بالأحرى لأن فكرة وجود الروح ذاتها تتناقض مع المبادئ الأساسية لنظرية التط ور، ولعل هذا التناقض يفسر الكراهية البالغة التي تبثُها نظرية التطور في نفوس الموحدين المتدينين.

 WHO’S AFRAID OF CHARLES DARWIN من يخاف تشارليس دارون؟

يعارض الموحدون المتعصبون دراسة نظرية التطور. لماذا تثُير نظرية التطور مثل هذه المعارضة في حين لا يبدو أن أحداً يعير اهتمامًا للنظرية النسبية أو ميكانيكا الكم؟

للوهلة الأولى تبدو أفكار دارون أقل تهديداً بكثير من بشاعة وضخامة آينشتاين وويرنر هايزنبرغ. نظرية التطور ترتكز على مبدأ بسيط وواضح، إن لم نقل رتيب! وهو: البقاء للأقوى. في المقابل، التظرية النسبية و ميكانيكا الكم تقول بأنه يمكنك تفَتلِ -twist- الوقت و المكان، أن شيئاً ما قد يوجد من العدم، و أن قطة ما قد تكون حي ة وميتة في آن واحد!

هذا كله يسخر من حِسنا المشترك -common sense-، إلا أن ذلك لا يغُضب أحداً لأن ما نتحدث عنه لا يتعارض مع أ ي من معتقداتنا العزيزة.

دارون جردنا من أرواحنا. إذا كنت تفهم نظرية التطور ستفهم أنه لا وجود للروح. هذا ليس أمرًا مخيفاً للمسلمين

والمسيحيين المتدينين فحسب، ولكن أيضًا لكثير من العلمانيين الذين لا يحملون أ ي معتقد ديني، ولكنهم مع ذلك يريدون أن يؤمنوا بامتلاك البشر لجوهر سرمدي أصيل فيهم، لا يتغير على مدار حياتهم، ويمكنه أن يغلب الموت.

المعنى الحرفي لكلمة “فرد”-individual- هو أنه شيء لا يمكن تجزئته أو فصله لأشياء أصغر.  بمعنى أنه إذا كنت فرداً فهذا يدل ضمنياً على أن نَفْسِيَ الحقيقية -my true self- هي كيان شامل وكلي وليس اجتماعًا لأجزاء منفصلة، أي أن نفسي شيءٌ واحد لا يتجزأ) يقصد أن الإنسان ليس روحًا وجسد(. لسوء الحظ ترفض نظرية التط ور فكرة أن النفس الحقيقية لا يمكن تجزئتها، و لا تتغير، وأنها جوهر أبدي) تظلُّ كما هي دون تغيير( -potentially eternal essence-. فتبعاً للنظرية، كل الكائنات الحية -من الفيلة وأشجار البلوط إلى الخلايا وجزيئات الحمض النووي- تتكون من أجزاء أبسط وأصغر، أجزاء لا تمتزج، وتنفصل بلا توقف. وبالتالي، فإن أي شيء لا يمكن فصله وتغييره لا يمكن أن يوُجد عن الطريق الانتخاب الحر. فالانتخاب الحر استطاع أن يول د العين البشرية) بتطورها الحالي(، لأن العين عبارة عن أجزاء.  ولكن الروح بلا أجزاء، وعليه، فوجود الروح لا يمكن أن ينسجم مع نظرية التطور. التطور يعني التغيير، و لا ينُتج التطور كيانات خالدة لا تتغير.

 WHY THE STOCK EXCHANGE HAS NO CONSCIOUSNESS?

لم لا تمتلك البورصة وعياً؟

 قصة أخرى تو ظف لتبرير الأفضلية والتفوق البشري تقول بأن البشر وحدهم من بين كل الحيوانات على الأرض يمتلكون عقلاً واعياً.

العقل شيء مختلف تمامًا عن الروح. العقل ليس كياناً خالداً غامضً ا. ولا هو عضو كالعين والمخ، العقل هو تدفق التجارب والخبرات الذاتية، كالألم، والسعادة، والغضب، والخوف. هذه التجارب العقلية تش ك لت من الأحاسيس والمشاعر والأفكار المتشابكة، التي تومض لبره ة من الزمن و تخفت سريعاً. هذا التجمع الهائج من الخبرات و التجارب يشكل تيار الوعي.

وعلى عكس الروح الخالدة، العقل له أجزاؤه التي تتغير باستمرار، ولا يوجد أي سبب يدفعنا للتفكير بأنه خالد.

لكل تجربة ذاتية -subjective experience- سمتانِ أساسيتان: الإحساس و الرغبة. الإنسان الآلي/ والحواسيب ليس لديها أ ي وعي لأنهم، وبالرغم من قدراتهم الهائلة، لا يشعرون بشيء ولا يتوقون للحصول على أي شيء.  ولهذا نقول بأن البشر كائنات واعية وأن الروبوتات ليست كذلك ،وأن جعل الناس يعملون حتى يغشى عليهم من الجوع والإجهاد جريمة ،في حين أن جعل الروبوتات تعمل حتى تنفذ بطاريتها لا يعتبر خزياً أخلاقياً.

ماذا عن الحيوانات؟ هل هي واعية؟ لع ل خوارزميات غير واعية هي سبب كل الأحاسيس والمشاعر -الجوع والخوف والحب والإخلاص- التي ننسبها للحيوانات، خوارزميات غير واعية لا «تجارب ذاتية».

مازال هناك الكثير من الناس في القرن الحادي والعشرين يعتقدون أن الحيوانات لا تملك وعياً، أو لديهم وعي مختلف أدنى من وعي الإنسان.

يجب أن نفهم بشكل أفضل كيف يعمل العقل، وما الدور الذي يلعبه، حتي نحدد ما إذا كان وعي الحيوانات مشابهً ا لوعي الإنسان أم لا.

بصراحة؟ العلم يعرف القليل عن العقل والوعي، نعم! قد يكون هذا مفاجئاً. باستخدام التصوير الرنيني المعناطيسي الوظيفي، والأقطاب الكهربائية المزروعة، والأدوات المتطورة، استطاع العلماء أن يحددوا بعض الروابط و العلاقات السببية -correlations and causal links- ما بين التيارات الكهربائية في المخ وبين تجارب ذاتية متعددة. على نطاق أوسع، استطاع العلماء أن يعرفوا أنه إذا تصاعد تيار كهربائي في منطقة معينة) خاصة بالغضب(من الدماغ ،فإنه يولد غالباً شعورًا بالغضب. استطاع العلماء تحفيز مشاعر الغضب أو الحب عبر حث وتنشيط خلايا عصبية معينة هي المسؤولة عن ذلك.

على الرغم من أن إرسال واستقبال كل ناقلة عصبية لإشارة كهربائية عبارة عن ظاهرة بيوكيميائية بسيطة ،إلا أنَّ التفاعل بين كل هذه الإشارات والناقلات يخلق شيئاً آخر أكثر تعقيداً بكثير، ترن ترا: تيار «الوعي»! نحن نلحظ نفس الديناميكية في كثير من المجالات. إلا أن أي مقاربة بينها و بين عمليات معقدة أخرى كازدحام المرور أو الأزمة الاقتصادية هي مقاربة معيبة. لأن لفظة الازدحام المروري هي ببساطة المصطلح المجرد الذي قرر البشر استخدامه للتعبير عن هذه المجموعة المعينة من الأحداث.على النقيض، “الغضب” ليس مصطلحًا مجرداً قررنا استخدامه كاختصار لمليارات الناقلات الكهربية في الدماغ. الغضب هو تجربية واقعية لأبعد حد عرفها الناس طويلاً قبل معرفتهم لأي شيء عن الكهرباء. ولهذا السبب فإن أفضل العلماء مازال أمامهم الكثير حتي يسبروا أغوار العقل و الوعي.

   THE EQUATION OF LIFE

معادلة الحياة 

 

التجارب الذاتية) والوعي الذاتي (أدوات مهمة للبقاء على قيد الحياة، إذا لم نشعر بالجوع أو الخوف لم نكن لنحتمل عناء مطاردة الأرانب أو الفرار من الأسود. التجارب الذاتية فسرت أفعال الإنسان. وللمفارقة، كلما استوعبنا هذه العملية،

)عملية الوعي، التي هي عبارة عن عملية في الأعصاب(، كلما ازدادت صعوبة تفسير المشاعر الواعية.

كلما فهمنا المخ أكثر قلتَّ حاجتنا للعقل وخدماته، إنَّ 99% من النشاطات البدنية، بما في ذلك حركة العضلات والإفرازات الهرمونية، تتم دون الحاجة لمشاعر واعية )أي أنها تتم لا إرادياً في اللاوعي(. فما الحاجة إذاً للشعور بالخوف؟

 يمكنك أن تجادل بأننا نحتاج العقل لأن العقل يخزن الذكريات، ويصنع الخطط، ويخلق صورً ا وأفكارًا جديدة تلقائياً، لكن من المهم أن نفهم أن كثيرًا من ردود أفعالنا تبدأ بمبادرة من عقولنا لا بسبب استثارة خارجية ،مثلاً: لا ضرورة لتشعر بالخوف، عقلكَ  قادرٌ على إرسال إشارات عصبية تزيد إفراز الأدرينالين فيكون ردُّ فعلك وكأنك شعرت بالخوف.

تبعاً للنظريات البيولوجية الحالية، فإن ذكرياتنا وأفكارنا وخيالاتنا لا توجد في «حقل غير مادي». على العكس من ذلك ،ذكرياتنا وأفكارنا أيضًا عبارة عن جرف ثليج ي من الإشارات الكهربائية يسيل بفعل تشابك مليارات الخلايا العصبية .

فلماذا إذن نحتاج للتجربة الذاتية )الواعية( للذاكرة قبل وفوق أي اتصال فيزيائي لخليتين عصبيتين؟ الاعتقاد المهيمن حالياً يقول بأن الكائنات الحية عبارة عن خوارزميات وأن كل الخوارزميات يمكن تمثيلها بصيغة رياضية، وعلى الرغم من معرفتنا الواسعة في مجال الرياضيات وعلوم الحاسب الآلي، لا يحتاج أي حاسوب أو آلة إلى أن يخوض «تجربة ذاتية» وأن يعرف «ذاته» أو يشعر بمشاعر الألم والسعادة والحب والكره حتى  ينُفذ العمليات المطلوبة منه ،أ ي أن الوعي بالذات ليس إلزامياً لإنجاز الأعمال.  إذا كان الأمر كذلك، ما الحاجة لكل مشاعرنا ولما نسُميه «الوعي»؟ ألا يمكن أن تكون هذه الأشياء تلويثات مصاحبة لعمل أدمغتنا؟

لكن لنتذكر شيئاً مهمًا: مُقارنة عقولنا بالحواسيب الآلية قد تكون مُقارنةً مضل لة، ولا يلزم أن تكون آلية عمل عقولنا كآلية عمل الحواسيب.   

   THE DEPRESSING LIVES OF LABORATORY RATS

 الحياة الكئيبة لفئران التجارب

بإمكاننا الآن العودة لسؤالنا: هل تمتلك الحيوانات عقلاً؟ عندما يحاول البشر تحديد ما إذا كانت الحيوانات كائنات واعية أم لا، فإن ما يبحثون عنه هو القدرة على بناء علاقة عاطفية مع هذه الحيوانات.

حقيقة أن الكلاب يمكن أن تبني علاقة عاطفية مع مُلاكها تقنع كثيرًا منهم أن الكلاب ليسوا كائنات غير عقلانية لا طائل منها. على الرغم من ذلك عندما يظهر حيوان ما سلوكً ا عاطف ياً معقد اً لا يمكننا أن ننفي أن هذا السلوك ناتجٌ  عن خوارزميات لاواعية متطورة للغاية.

هذه الجدلية إذا صحت في الحيوانات، فبإمكاننا أن نقول عن البشر نفس الشيء.

التجارب الأولية على القردة والفئران أظهرت أن عقولهم تعكس إشارة واعية -signature of consciousness-. إلا أن الجزم بهكذا شيء قد يأخذ عقوداً من الزمن، تثُير الاهتمام بعض التجارب التي تدعي بأن الفئران واعية لتجاربها السابقة إلى حد ما، مما يحفز عقلها على إفراز بعض المواد الكيميائية الحيوية التي تعطي الفئران الأمل وتؤخر ظهور وغَلَبة اليأس عليهم ،إلا أن المعارضين لهذه الادعاءات يرونَ  أن الفئران لا تعرف معنى الأمل واليأس أصلاً !

تسعى الأدوية النفسية لتغيير مشاعر الإنسان لا سلوكه فحسب.

  THE SELF-CONSCIOUS CHIMPANZEE

 الشِمْبانْزي الواعي لذاته

في محاولة لحفاظ الإنسان على أفضليته عن باقي المخلوقات: يقبلُ  بأن بعض الحيوانات تملك وعياً ولكنه يجُادل بأن هذا الوعي ليس كوعي البشر ،لأنهم يفتقدون لإدراك ذواتهم .قد يشعرون بالاكتئاب أو السعادة أو الجوع مثلاً، لكنهم لا يطورون مفاهيمًا عن الذات، عن مَن هُم؟ ومن أين أتوا؟ إلى أين يذهبون؟ لا تعي هذه الحيوانات أن مشاعر الاكتئاب مثلاً تصدر عن كيان فريد اسمه الأنا وتنتمي له.

يوفال يشُكك بعض الشيء في هذه الفكرة )أن الحيوانات لا تدرك ذاتها(، ويرى أنها فكرة مبهمة، ويطرح المثال التالي: لو بالَ كلبُ الجيران على شجر ة في الح ي، لاستطاع كلب منزلك أن يمي ز بوله عن بول الكلب الآخر، وإذا كان قادرًا على أن يمي ز أن هذا البول بول كلب «آخر» مُختلف عنه، فلمَ لا يستطيع أن يمي ز ذاته ويدركها؟

أبعد من ذلك: يجُادل البعض أن الوعي بالذات يكون على مستويات مختلفة، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعتقد أن ذاته ممتدة لها ما ض ومستقبل، ولع ل سبب ذلك أن البشر استخدموا اللغة ليتأملوا تجاربهم السابقة وليف كروا بالمستقبل وماذا سيفعلون فيه، أما الحيوانات فتفعل العكس ،تعيش لحظتها الحالية وكأنها لحظة خالدة ،وردود أفعالهم تكون نتيجة محفزات لحظية فقط، كأن تظهر فريسة في لحظة جوع، فتكون الاستجابة مُباشرة بصيد الفريسة، انطلاقها لصيد الفريسة قرار ناتج عن خوارزميات في العقل .

إلا أن شامبانزياً اسمه سانتينو كانت له استراتيجية أخرى: كان يجمع بعض الأحجار ويلقيها على زوار حديقة الحيوانات عندما يقتربون من القفص، ثمَّ لاحظ أن ذلك يؤذي الناس، أي لاحظ أن الآخرين ليسوا جمادات، ولهم مشاعر ورغبات، فط ور الشمبانزي لعبته وصار يأخذ أي شيء يستطيع إلقاءه على العامة و يخُفيه في مكان قريب منه في زنزانته، وبعد ذلك يخدع الناس بهدوئه الشديد مُنتظرًا اقترابك منه حتى تكون المسافة كافية لإيقاع أشد  ضرر ممكن.

النتيجة النهائية الحالي ة: نحن نعتبر البشر واعين لأنفسهم، وواعين بذواتهم، وإن لم ينشغلوا بتذكر ماضيهم أو الحلم بمستقبلهم. في حالة سانتينو ،ما التفسير الأفضل لتص رفه؟ هل يخُطط للمستقبل؟ إذا كان الجواب لا فليقُدمَّ الدليل على ذلك، أو من المنطقي أن نرى الشمبانزي محكومًا بخوارزميات لاواعية، وخلاصة التجربة: سانتينو فقط يريد أن يلعب بالعصي والأحجار. لكن حتى لو لم يكن سانتينو يتذكر الماضي ويفُ كر بالمستقبل، هل ينفي هذا عنه وعيه بذاته؟

 THE CLEVER HORSE

الحصان الذكي

الحصان هانز أظهر فهمً ا ملحوظًا للغة الألمانية، ومهارة ً مقبولة في الرياضيات. لكن اتضح أن الحصان يعرف الإجابة عن طريق ملاحظة كثيفة للغة جسد وتعابير وجه محادثيه. فعندما يسألونه مثلاً عن محصل جمع عددين، يبدأ بالعد ولا يتوقف عن ضرب الأرض بقدميه إلا عندما يستشف من تعابير وجه سائليه أنه وصل للعدد المطلوب. الحصان هانز كثيرًا ما  يعُتبر كمثال لأنسنة البشر للحيوانات، لكن ظاهرة الأنسنة تمت بشكل خاطئ، كما يبدو ذلك في هذا المثال، إذ يتم عزو قدرات وملكات مذهلة للحيوانات لسنا مُتأكدين منها وليست حقيقية.

ولكن ،أليست طريقة تفكير الحصان مُختلفة؟ ولع ل هذا ما يميزها! هانز كان عبقرياً فعلاً بقدرته على استشفاف وفهم ملامح الناس ومشاعرهم عن طريق لغة الجسد.

لا يمكن أن ننفي أن للإنسان قدرة فريدة م ك نته من الهيمنة على بقية المخلوقات، فأغلب الدراسات أشارت إلى أن للذكاء الإنساني، ولـ«الرموز» أهمية خاصة في ارتقاء البشر، وبالطبع لا يفُسر الذكاء لوحده كيف غزا الإنسان العالم. فالإنسان قبل عشرين ألف عام كان متوسط ذكائه أعلى من الآن، ومتوسط قدرته على صناعة الأدوات أكبر من متوسط قدرة الإنسان المعاصر .ورغم ذلك، كانت البشرية قبل عشرين ألف سنة أضعف بكثير مما هي الآن. إذاً لا يقفُ الأمر على الذكاء فحسب.

العامل الحقيقي وراء غزونا للعالم هو قدرتنا على وصل الناس ببعضهم البعض، فالإنسان هو النوع الوحيد على وجه الأرض الذي يقدر على التعامل مع الغرباء بمرونة، هذه القدرة سرُّ من أسرار سيطرتنا على كوكب الأرض، ولكنها لا تكفي وحدها ،الاتصال الجي د يحتاج تنظيم الناس بشكل جيد وفعال.

 LONG LIVE THE REVOLUTION

 عاشت الثورة

إشعالُ ثورة يحتاج أعداداً كبيرة من الناس، الثورات سابقاً كانت تبدأ على يد شبكة صغيرة من الثائرين المُح رضين لا على يد الجموع الضخمة. إذا أردت أن تطلق ثورة فعليك أن تسأل نفسك:«كم من رفاقي يستطيعون التعاون معي بشكل فع ال؟»، التنظيم الشيوعي حفظ الشيوعيين في السلطة لثمانية عقود!

تشاوتشيسكو، رئيس روماني حكم 20 مليون رومانياً مدةَ ربع قرن، 1965-1989، كيف فعل ذلك؟

أ من تشاوتشيسكو 3 شروط حيوية للغاية:

شبكات التعاون المؤثرة كانت محكومة من قبل الشيوعيين المخلصين.

منعوا تكوين أي مؤسسات مناهضة ومعارضة يمُكن أن تكُ وِ ن شبكة تعاون ضد الشيوعية.

اعتمدوا على دعم الحكومات الشيوعية المجاورة لهم في الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا .

استمر النظام في الحكم طوال هذه المدة وعجز الشعب الروماني عن تكوين جبهة مُعارضة مُن ظمة، قد توُجد الأعداد الضخمة لكنها لم ترتبط ببعضها البعض بالشكل المناسب، ولعل مصير الثورة المصرية كانَ مماثلاً.

 BEYOND SEX AND VIOLENCE |

ما بعد العنف والجنس

ما الذي م كن البشر من التعاون بين بعضهم البعض بهذا الشكل الجي د؟ -كما في الحالة الشيوعية-. البشر أتقنوا تقنيات وحيل التعاون والتواصل جيداً، في مقا م معي ن يتو زعون في تسلسل هرمي، بشكل يشبه ما يفعله مجتمع الشمبانزي؛ وفي مقام آخر يوُث قون علاقات اجتماعية مُباشرة بالجنس ،كما يفعل البابون، لنعدُ إلى الخلف: التعاون الجماعي الضخم م كن الإنسان من السيطرة على العالم.

تجربة الـ«Ultimatum Game»، وهي تجربة أجُريت مع قرود الكبوشاوات، يمُكنك مشاهدتها بالضغط هُنا.

تقوم التجربة على إعطاء مكافأة مختلفة لكل قرد، فالقرد الأول عندما ينُفذ المطلوب سيأخذ حبةّ من العنب، أما القرد الثاني فسيأخذ شريحة من الخِيار، ومع تكرار الأمر يرفض القرد الثاني أن يأخذ شيئاً غير الذي أخذه القرد الأول ،«لمَ آخذ خيارًا ويأخذُ عنباً؟!»، دفعت هذه التجربة الكثيرين للاعتقاد أن القردة لديهم أخلاق فطرية، وأن «المساواة» قيمة عالمية وعابرة للزمن، كونُ  المساواة أمر فطري فهذا يجعلنا نظن أن انعدام التساوي في بعض المجتمعات يمنعها عن العمل بشكل سليم ،نتيجةً لاستياء الناس وعدم رضاهم، لكن نجد العكس: معظم الإمبراطوريات والممالك البشرية كانت ظالمة وفي نفس الوقت كانت إمبراطوريا ت  مستقرة وفاعلة، لماذا؟ لأن سلوك الإنسان الفرد لوحده يختلف عن سلوكه كعضو في تجمّع أو مجموعة بشرية أكبر.

أيّ تعاون واسع النطاق بين مجموعات بشرية كبيرة، يقوم بشكل أساسي على إيمان الناس بـ«معتقدات» و«نظُم» مُتخيلّة: جُملة من القواعد، توجد في عقولنا فحسب! صدقنا أنها حقيقية وغير قابلة للانتهاك أبداً، كأنها حقيقة الجاذبية الأرضية .

شبكة المعنى أم الشبكة المعرفية؟ | THE WEB OF MEANING

يصعب على الناس فهم فكرة «الأنظمة المتخي لة»، –imagined orders-، لأنهم يفترضون أن هناك نوعين فقط من

  .–objective reality- وحقيقة موضوعية ،-subjective reality– الحقيقة: حقيقة ذاتية

الحقيقة الموضوعية هي الملموسة التي توجد بشكل خارجي منفصل عن ا، أما الحقيقة الذاتية فهي التي تشترك مع معتقداتنا ومشاعرنا ،لكن، هنالك نوعٌ ثالث هو الحقيقة الذاتية المشتركة .

الكيان المُشترك، أو الذوات المشتركة، تعتمد بشكل أساسي على التواصل بين البشر، لا على معتقداتهم ومشاعرهم، لنف كر في النقود كمثال، تستمد النقود قوتها الشرائية من اعتراف الناس بها كعملة، كوسيلة، للتبادل في عملية البيع والشراء، إذا رفض الناس التعامل بها فستصبح أوراقاً عادية دون قيمة. كما يحدث هذا مع المال، يمُكن أن يحدث مع القوانين المكتوبة ،ومع فكرة الإله وحتى مع الدولة .الاتحاد السوفيتي سقط بجرة قلم!

هذه النظم والمعتقدات المُتخي لة، فكرة القومي ة، والإله، والدولة، تعُطينا معنى وقيمة في حياتنا، ومن ث م لا نحب أن تهُدم.

كيف ينُتج الناس قصةً أو فكرة مُتخي لة؟ يبدأ الأمر بمشاركة التجارب والحكايا، وتكرار نشرها وتأكيد من عاشوها عليها، وشيئاً فشيئاً يعُزز الناس قصص بعضهم البعض في حلقة مستدامة، ينتج عنها تأكيدٌ مشترك على ما يؤمن به الموجودون في هذه الدائرة ،ثم تتسع وتقوى الدائرة حتى تضُبط وثاقها على عنقك، فلا تؤمن إلا بما تؤمن به الدائرة .ومع الزمن تحلُّ  شبكة من المعاني والمعتقدات محلَّ شبكة أخرى، وشيئاً فشيئاً، يترك الناس أفكارًا آمنوا بها بصدق وينتقلون لأفكار أخرى .

إيماننا الآن بالديمقراطية وحقوق الإنسان قد يبدو لأحفادنا أمرًا تافهًا وغير مفهوم.

  DREAMTIME

 وقت الحُلم

يحكم البشر العالم فقط لاستطاعتهم نسجَ  شبك ة  معرفي ة  ذاتي ة  مشترك ة: شبكة من القوانين والالتزامات والكيانات التي توجد حصرًا في مخيلتهم الجمعية. هذه الشبكة تمكن البشر من تنظيم حملات صليبية وثورات اشتراكية وحركات حقوق الإنسان .

القطط والحيوانات الأخرى مسجونة في العوالم الموضوعية، عالم الأشياء، ويستخدمون وسائل التواصل للتعبير عن الحقائق ووصفها فقط؛ أما البشر فيخلقون عوالم مختلفة تمامًا باستخدام اللغة.

العلوم الإنسانية تؤكد على الأهمية القصوى للكيانات الجماعية، وهي لا يمكن اختزالها في هرمونا ت أو خلايا عصبية. أن نفكر تاريخياً يعني أن نعزي القوة والسلطة الحقيقة لمحتويات قصصنا الخيالية.. القصص التي يخترعها الناس

ويصدقونها، كاختراع الدولة: يتخي ل الناس أن هنالك شيء ما على أرض الواقع اسمه الدولة ،أو أن هناك قطعة جغرافية فيها أنهار وبحار وأرا ض مُحددة هي «الدولة الفلانية».

في القرن الحادي والعشرين قد يصبح الخيال هو أقوى قوة على سطح الأرض، متخطياً حتى الانتخاب الطبيعي

والكويكبات المدمرة .ولهذا، إذا كنا نريد أن نفهم المستقبل فعلينا أن نسبر أغوار الخيالات )والأساطير والأوهام( التي تمنح المعنى لعالمنا.

خُلاصة:

ما الذي يميزنا كبشر؟ لا أحد يملك جواباً مُدعَّمًا بأدلة ملموسة على ذلك .لم نعرف بعد ما الذي يجعل الإنسان مختلفاً عن غيره من المخلوقات أو الحيوانات.

هل تمُي ز اللغة الإنسان؟ من خلال اللغة يستطيع أن يتخي ل المستقبل، وأن يتخيل أشياء غير موجودة، ويستطيع من خلال خياله أن يقُنع نفسه بأفكار وحدود وهمية، كفكرة القومي ة أو فكرة الدين.

هل يمكن القول أن ما يمُيز الإنسان هو قدرته على التواصل مع المخلوقات الأخرى ومع البشر الآخرين حتى الغرباء منهم؟ الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على فعل ذلك، وفي نفس الوقت قادرٌ على أن يكون عضوًا في مجموعة ضخمة جداً من البشر، كأن يكون عضوًا في دولة، أو مؤمناً بدين مع بشر آخرين، وبعدَ أن يكون عضوًا في مجموعة يعملُ على تنظيمها وإعادة ترتيبها بما يخدم هذه المجموعة وينُجز أعمالها .قد تكون هذه الخصائص هي ما يمُيز الإنسان.

في الفصل القادم يتُابع يوفال بشرح فكرة «الشبكة المعرفية»، ويتحدث عن الحكايا والأساطير التي حكمت الإنسان لفترات طويلة وحكمَ من خلالها الإنسان مخلوقات أخرى .

 THE STORYTELLERS رواة القصص

الحيوانات تعيش في واقع ذو بعدين اثنين:

  • الأول: البعد الموضوعي، الذي يدُرك من خلاله الأشياء الملموسة ووجودها.
  • الثاني: التجارب الذاتية الداخلية، كشعور الحيوان بالخوف أو الفرح أو الجوع مث الا.

أما الكائنات العاقلة «Sapiens» فبالإضافة للبعدين السابقين يملكون بعدًا ثالثاً: الخيال، وقدرتهم على تكوين أفكار وتخيّلها، كفكرة الإله والعرق والقوميةّ والمال.

مع بداية القرن الحالي ساعدت التقنية على جعل الخيال أكثف حضورا وقوة.

في سعينا لفهم المستقبل فلنطرح السؤال التالي: المسيح وفرنسا وأبل، كيف أصبح الثلاثة قوى حاضرة في حياة كثير من الناس؟

منذ نهاية العصر الحجري وحتى الآن لم تتغير قدرات الإنسان الأساسية، ولكن شبكة القصص المتخُيلّة صارت أكثر تماس وقوة.

انطلق نمطٌ جديد من اللغة مع وقوع ثورة الإدراك، وبدأ الإنسان باستخدامه ليطُلق قدراته ومكامنه، مُستعم الا اللغة ليتحدث عن ما يجول في خاطره، ليتحدث عن ما يتخيله، وهنا كانت بداية شبكات الخيال!

تجمع البشر في مجتمعات زراعية مستقرة إلى حد ما ساعد على تقوية و توسعة شبكة الخيالات الجماعية المشتركة) أو الشبكات المعرفية الذاتية المشتركة – intersubjective networkd(، المزارعون الأوائل كانوا يعتمدون على قدرة عقولهم على معالجة وتذكر هذه الخرافات المُتشاركة بين الجميع، ولكن للحفاظ على هذه الخيالات الجماعية وتنظيم التعاون بين الجموع، كانوا بحاجة لأكثر من ذلك.

في بداية مدن السومريين القديمة، لم تكن المعابد مكانا للعبادة وإنما مرك ازا للسلطة السياسية والاقتصادية، آلهة سومر كانت رم از ا للقوة، العلامات التجارية والشركات الحديثة امتدادٌ لهذه الرمزية.

في زمن السومريين ،تم تشغيل الناس باسم الآلهة ،المال يقُترض من الآلهة، الفلاحون يحرثون أراضي الآلهة ويسددون ضرائبهم والرسوم التي عليهم، إنه نفس منطق قوقل ومايكروسوفت عندما توظف

العاملين، سابقا تعملُ من أجل الإله، والآن تعملُ من أجل إله آخر، لا يقول لك أنهّ إله، لكنه يخُبرك أنه قوقل مثالا!

اتخذ المصريون الفرعون كإله، وليس نائبا له. كان الفرعون كائنا بشريا طبيعيا، بمشاعره وغرائزه. ولكن هذه الحقيقة البيولوجية لم تكن مهمة أبدا، وإنما أسطورة الفرعون الإله والخرافة التي مثلها وحكم بها مصر.

مكّنت «الكتابة» الإنسانية من تنظيم المجتمع تحت النمط الخوارزمي «Algorithmic fashion»؛ نستخدم مصطلح «خوارزميات» عندما نريد أن نفهم ماهية المشاعر والعمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان، و ت تخذ الخوارزميات –كما شرحنا سابقا- منه اجا تسلسليا يتم من خلال عمليات حسابية، بنفس المنطق –

منطق الخوارزميات- بنُيت بحيرة الفيوم وبنُيت الأهرامات بالعمليات الحسابية التي أصبحت واقاعا عمليا، إنها عمليات حسابية! وعلى الرغم من ذلك اتجه الناس إلى فرعون، الإله، بصلواتهم وتهاليلهم طالبين منه أن لا يجف النيل ويذبل الزرع.

 LIVING ON PAPER العيش على الورق

مع  «الكتابة» صار الكيانات المُتخيلة أقدر على تنظيم أعداد مهولة من الناس، كما أنها أعادت تشكيل تصوّرنا عن الجمادات والملموسات، فلم نعد نرى الأنهار كماء يجري فحسب، بل صرنا نضُفي لها معانٍ وأوصافا مختلفة خياليةّ لا وجود لها في الواقع، وهكذا، مكّنتنا الكتابة من إضفاء المعنى والخيال على الأشياء، وخلقت سيولة كبيرة جعلت الإنسان يؤمن بوجود الكيانات الخيالية )Fictional entities(.

في الفترة 1958-1961 أراد أمين عام الحزب الشيوعي الصيني الأسبق، ماو تسي تونغ، تحويل الصين إلى قوة خارقة Superpower، فبدأ بإنشاء مشاريع جديدة لتطوير القوات العسكرية والصناعية، ما دفعه لمضاعفة الإنتاج الزراعي للصين. قام المسؤولون بتزوير تقارير تطُمئن بزيادة الانتاج الزراعي تجنبا لأي انتقاد حكومي ورغبة منهم بتحقيق التفوق العالمي، ونتيجة لهذا التقرير الذي يخُبر بأن الانتاج ارتفع بنسبة 50%، أصدرت الحكومة الصينية قرا ار ا بتصدير ملايين من أطنان الأرز في صفقة أسلحة وآليات ثقيلة مع دول خارجية. اللغة ساعدتنا على الكتابة، الكتابة ساعدتنا على تخيلّ أشياء ليست موجودة، ثم ساعدتنا الكتابة على نشرها بين الناس! كوّنت الكذبة لنفسها شبكة من الناس والناشرين، ث م مات ملايين الناس في مجاعة من أسوأ مجاعات القرن الماضي، بسبب تقريرٍ «مكتوب».

ختا اما، الكتابة غيرت كثي ارا من الواقع، الأنظمة التعليمية والأنظمة البيروقراطية المعقدة لا تكترث بالحقيقة الواقعية أو الموضوعية، وإنما تفهم وتتعامل مع ما هو مسجل في المستندات وفقط!

  HOLY SCRIPTURES الكتب المقدسة

هل يجب في بعض الأحيان على الحقيقة أن تتنحى جانبا إذا تعارضت مع النص المكتوب/ المستندات؟ أم أن هذا محض هراء شائع عن البيروقراطية؟ أيا يكن، البيروقراطيون لم يجعلوا القصة تلائم الحقيقية، بل الحقيقة تلائم القصة التي تعكس الحقيقة المتخيلة لهم.

هدف التعليم أن ينُوّر الإنسان، ولكنه صار عملية بيروقراطية مُملة، فالـ«علامات والدرجات» صارت أدوات قاسية تحُدد ما إذا كان فلان ناج احا أو فاش الا! وكل هذا لخدمة المنظومة البيروقراطية المؤمنة بالمكتوب فقط.

قدي اما لم تكن المدارس والبيئات التعليمية لم تكن كما هي اليوم، والدرجات كانت فقط مجرد مؤشر للنجاح .

مُشرفو الأنظمة التعليمية يعلمون أن القدرات والمهارات اللازمة لتحصيل العلامات ليست نفس المهارات اللازمة لفهم الأدب، والأحياء، والرياضيات، والجميع يعلم أن المدارس عندما تخُير بين هذين النظامين، ستختار نظام العلامات.

وصلت الكتابة لذروة قوتها بظهور الكتب المقدسة، عندما كان الناس يبحثون عن ترشدهم في الحياة، وعندما بدأ الكهنة والكتاّب بكتابة هذه الكتب المقدسة، ومن أول ما كتبوا عنه الضرائب؛ على الحقول ومخازن الحبوب. مع ازدياد سطوة البيروقراطية اتسعت سطوة النصوص المقدسة، وأصبحت هذه النصوص تقدم منظوركم الا للحقيقة والكون، وتف ر غ علماء وطُلاب لدراسة النصوص المقدسة كالإنجيل والقرآن والفيدا «Vedas»، وبدأ القادة بصناعة خرافات وأساطير، لأنك إن لم تصنع خرافات وأساطير ستحظى بعدد قليل من المحبين.

لنقل أنّك تخرجت بشهادات علمية مرموقة ومُعتبرة، ث م حملتها وقلت: إنها أوراق فحسب، لا معنى لها!

ستسقطُ سريعاا، وفي الغالب لن تستطيع المُضي قد اما في حياتك العملية المهنية أو في مسارك الأكاديمي. إنه نفس المنطق الذي تفرضه النصوص المقدسة على الناس: على الجميع أن يقُدموا المال للآلهة. المرأة في منزلة أدنى من الرجل وشهادتها أقلّ من شهادته، ومن أراد التوفيق والنجاح في الحياة فعليه أن يفهم النصوص المقدسة، نقطة وانتهى! و من يقول «الكتاب المقدس مجرّد أوراق!» فإنه مهرطقٌ لا مكان له في الرتب العليا .مشكلةُ الإنجيل أنه لم يضع تصورات لفهم البيئة مثلًً، أو نظامًا سياسياً أو إطارًا لفهم السياسة، إنه كتاب أساطير وخرافات.

العلماء اليوم يتفقون مع المؤرخ الإغريقي اليوناني هيرودوت ومع المؤرخ الصيني سيما كيان، اللذين عاشا قبل الميلاد، يتفق علماء اليوم معهما أكثر مما يتفقون مع الإنجيل! أيّ مفارقة هذا، وعلى الرغم من ذلك لا يزال الرئيس الأمريكي عند تأديته للقسم يقُسم على الإنجيل، أما انجلترا وغيرها من الدول يقُسم الشاهد في المحكمة على الإنجيل أنه لن يقول إلا الحقيقة ،كيف يقسم على كتاب مليء بالأساطير والخرافات والمغالطات؟

 BUT IT WORKS! !ولكنها تعمل

الخيال يخلق لنا مساحات أكبر للتعاون ،والنتيجة التي ندفعها هي أن هذه التخيلات هي التي تحدد غايات التعاون، وتصبح لها اليد العليا بعد ذلك، فتصبح هي المرجعية لا الوسيلة. يقول المسلمون «نظامنا ناجح!

يوجد اليوم 1.5 مليار إنسان يعتنقون الإسلام، وكثيرون يتدارسون القرآن وأعداد الداخلين في الإسلام في ازدياد»، السؤال الجوهري هُنا، هل هذا هو المعيار الحقيقي للنجاح؟ هذا القول يشُبه ما يمكن لمدرسة ما أن تقوله:«نظامنا التعليمي فعاّل، ارتفعت نتائج الامتحانات في السنوات الماضية بنسبة 7.3%».

شبكات التعاون الإنسانية عادة ما تبني وسائل ومعايير تقييمها بنفسها، وبما أن هذه الشبكات صُنعت باسم الأفكار المتخيلّة كالإله والقوميةّ، تصُبح معايير النجاح مبنية على هذه الأفكار، مث الا تمُجد القوميةّ إذا عززت المصالح القومية، ومعيار «المصالح القومية» أص الا ناتجة عن الفكرة المُتخيلّة للقومية!

والمؤسسات تزدهرُ إذا استطاعت أن تزيد الأموال.

عندما ننظر لتاريخ شبكات العلاقات الإنسانية، من المهم والضروري أن نقف لرؤية الأمور من زاوية الكيانات الحقيقة Real Entity، ولكن كيف نعرف أن هذا الكيان حقيقي؟ فقط اسال نفسك «هل تشعر بالمعاناة؟»، عندما يحرق الناس هيكل الآلهة زيوس فإن زيوس لا يتألم، عندما نحرق العملات النقدية لا تتألم العملات، عندما تعاني دولة ما من هزيمة في حرب فإن الدولة لا تعُاني، كل هذا مجازٌ Metaphor فحسب! أمّا عندما ينُهك فلاحٌ من الجوع فهو حقا يشعر به و يعُاني، وعندما تفصل البقرة عن عجلها الصغير فإنها تعاني، هذه هي الحقيقة!

الشراكات، والمال، والمؤسسات، والقوميات توجد فقط في مخيلاتنا. نحنا صنعناها لتخدمنا، لماذا نقدم كل هذه التضحية لخدمتهم؟

في القرن الحالي سنصنع أفكا ارا مُتخيلّة أقوى من التي عهدناها، وستكون الأديان أكثر شمولية، مُستعينين

في القرن الواحد والعشرين سنصنع خيالات أقوى وأديان أكثر شمولية أكثر من التي شهدناها سابقا، بمساعدة البيوتكنولوجي وخوارزميات الحاسوب، هذه الأديان والأفكار المُتخيلّة لن تتحكم فقط في وجودنا لحظة بلحظة، وإنما ستعيد تشكيل أجسادنا وأدمغتنا وعقولنا، كما أنها ستصنع عوال ام ا افتراضية للجنة أو النار، ستحكم تفكيرنا.

التمييز بين البنى والمنظومات والمؤسسات المُتخيلّة وبين ما هو حقيقي فع الا، وتمييز ما هو ديني وأيديولوجي عن ماهو علمي، كلها تمييزات ستصبح أكثر صعوبة ولكن ضروريةّ وأهم.

خلاصة:

يستعمل الإنسان اللغة، ومن خلال اللغة يستطيع أن يصن ع أشياء متخيلّة، ومن خلالها يضُفي على الأشياء والجمادات معانٍ ليست ملموسة، فالنهر لا يرُى على أنه تجمّع للماء فحسب، ولكنه «انسياب» و«تدفق» يذُكّر مثالا بمشاعر الحب للمحبوب، هنا تسُاعدنا اللغة، من خلال الكتابة والتعبير عمو اما، على أن نضُيف على الملموسات معان ومشاعر غير ملموسة!

هذه القدرات لدى الإنسان: استعماله للغة والكتابة، مكّنته من تقوية أفكاره المُتخيلة، الأفكار المُتخيّلة هي المنظومات والحدود والمؤسسات والإطارات التي نعيش في داخلها، خلق الإنسان هذه الأفكار المتخيلّة كلها من تفاعله مع نفسه ومع الطبيعة ومع الآخرين، ومن كلّ ذلك نسج الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وأضفى معنى على كل شيء فأصبحت للأشياء رموز معينة تحملها لها معنى يتخيله الإنسان بشكل جماعي ويربطه بهذا الشيء والرمز.

مثل: القدس مكان حقيقي ملموس على أرض الواقع، والقرآن كذلك. نزل الوحي وآمنا به ووثقناه كتابة وبدأنا نتصرف بشكل جماعي على أساس فهمنا للقرآن، ثمَّ يكبر أطفالنا على قصص القرآن والمجاهدين الأبطال والشهداء المُنعمين في الجنة، ويعُطي هؤلاء الأطفال صورة السيف والقدس والموت معانٍ أكبر من الحقائق الملموسة أمامهم، لاحقاً، تأتي سلطة دينية أو سياسية وتستغلّ هذه الشبكة المشتركة من المعاني لتحقيق أهدافها. على كل حال، في المستقبل مع المزيد من فهمنا للخوارزميات والبيوتكنولوجي سنبدأ ببناء أفكار مُتخيلّة أعقد من التي عشنا فيها سابقاً.

 الفصل الخامس: الزوج الغريب

تمهيد [1]

القصص عادة ما تشكل القواعد الأساسية في المجتمعات الإنسانية. على مر التاريخ ازداد تأثير قصص ألفها الإنسان عن الألهة والدول والشعوب حتى أصبحت تسيطر على الواقع الموضوعي. للأسف، الإيمان الأعمى بهذه القصص دفع الإنسان نحو تمجيد المؤسسات المُتخيلة بد الً من تحسين حياة المخلوقات ذات الإحساس.

إن العالم الحديث يختلف عن العالم القديم على عدة مستويات. في العالم القديم، لم يستطع الفراعنة المصريين ولً الأباطرة الصينيين القضاء على المجاعات أو الأوبئة أو الحروب. ولكن المجتمعات الحديثة استطاعت أن تفعل ذلك خلال قرون بسيطة. فالتساؤل يصبح: هل كان ثمرة التخلي عن الأساطير لصالح المعرفة العلمية الموضوعية هي ما تمكين الإنسان من ذلك؟

العالم الحديث مُختلف عن القديم. قدي اما، لم يستطع لً الفراعنة المصريّون ولً الأباطرة الصينيون القضاء على المجاعات أو الأوبئة أو الحروب، ولكن المجتمعات الحديثة سريعاا ما انتهت من هذه المشاكل خلال قرون قليلة. فهل يحقُّ لنا أن نسأل: هل التخليّ عن الأساطير لصالح المعرفة العلمية الموضوعية هو ما سهّل على الإنسان فعل ذلك؟

لً يعني هذا أن الأساطير اختفت من حياتنا، فهي تسيطر اليوم على الإنسانية ويعُزّزها العلم الحديث، فبد الً من أن يفُكك ما هو غير حقيقي، وما هو وهم، يفعلُ العلم العكس! الفرق بين الخيال والحقيقة، بين الواقع والمُتخيلّ، مُتضائ الا يقلُّ يو اما بعد يوم، وكلّ ذلك يعود للتطور التقني المُتسارع والتكنولوجيا الحيوية.

صعود العلم سيمنح أدياناأ وأساطي ارا مُعينة قوةا وسلطة غير مسبوقة، لذا، فلنسأل: ما علاقة العلم الحديث بالدين؟

الجراثيم والشياطين GERMS AND DEMONS

سوء فهم العلاقة بين الدين والعلم يأتي من فهم قاصر لماهيةّ الدين. يظنُّ الناس أن الدين هو الروحانيات والخرافات، أو الإيمان بقوة فوق الطبيعة أو الإيمان بإله، لكنّ الدين لً علاقة له بأيٍّّ مما سبق.

قبل أن ننطلق علينا أن نؤكد على ملاحظة مهمة: من يؤمنون بقوى فوق طبيعية قلةّ، فالذين يؤمنون بالأرواح والشياطين فهم لً يعتبرونها إلً قوى طبيعية كالجراثيم أو العقارب؛ يستطيع الطبيب اليوم أن يشُخص مرضك بسبب جرثومة ما، لكن رهبان الفودو سيلومون رو احا شريرة تسببّت بمرضك، في كلا الحالتين؛ الأمر مرتبطٌ بالطبيعة.

الدين اختراع إنساني لً اختراع من الآلهة. ما عرَّف الدين هو وظيفته الًجتماعية[2] وليس وجود الآلهة. الدين قصة واسعة وشاملة تعُطي الإنسان شرعية فوق-إنسانية ليستمد منها قوانيناا إنسانية وأعرافاا وقي اما.

ي ؤُكد الدين على أن الإنسان يخضع لمنظومة قوانين أخلاقية لم يصنعها الإنسان نفسه، ولذا لً يستطيع تغييرها .

اليهودي يؤمن مثلاا أن هذه المنظومة حددها الخالق وشرحها بالكتاب المقدس. الهندوسي يؤمن أيضاا بأن البراهاما والفيشنو والشيفا -آلهة الهندوس- حددت القوانين وشرحتها للإنسان في الكتاب المقدس الهندوسي ،الفيدا.

أديان أخرى كالبوذية والشيوعية والنازية والليبرالية تحُاجج بأن القوانين الفوق-إنسانية ماهي إلً القوانين الطبيعية، وهي ليست موضوعة من إله أو آخر، بالطبع يؤمن كل منهم بمنظومة قوانين طبيعية تختلف عن الآخر، وهذه القوانين اكتشفت بطرق مختلفة بواسطة رُسل مختلفين وبمنظورات مختلفة. كل مجتمع محكوم بهذه القوانين الأخلاقية الموضوعة تقول لأفرادها بأن القانون الأخلاقي يجب أن يطُاع، وخرقه سيؤدي بالمجتمع إلى كارثة.

قوانين الشيوعية للتاريخ تشبه قوانين المسيحية عن الإله، كلها قوانين تشُير لقوى فوق إنسانية والإنسان غير قادر على تغييرها. يمُكن للإنسان أن يلُغي قوانين التسلل في كرة القدم، بالطبع يمكنه فعل ذلك! فهو الذي اخترعها، أمّا ماركس فيظنّ أننا لً نستطيع تغيير قوانين التاريخ! لً يمكن لرأسمالي أن يتوقف عن تكديس المال، وسيتُابعون تكديسه، و«بطبيعة الحال»، أو «وفقاً لقوانين التاريخ»، مصير الرأسماليين الهزيمة أمام الطبقة العمالية البروليتارية.

 IF YOU MEET THE BUDDHA إن وجدتم البوذا: اقتلوه

القولُ بأن الدين أداة لحفظ النظام الاجتماعي قولٌ يستفزُّ الذين يعتقدون أن الدين رحلة/ تجربة روحية.

كما أن المسافة بين الدين والعلم تتقلص شيئا فشيئا، فالمسافة بين الروحانية والدين تزداد بشكل كبير. الدين صفقة والروحانيات رحلة وطريق.

 لكن لماذا كان الدين مناسبا كأداة لجمع الناس وتنظيم المجتمع؟ لأنه يوُفر للناس فه اما واض احا للعالم والكون الذي نحن فيه، )الإله موجود(، ويخُبرنا كيف نعيش فيه )أخبرنا الإله أن نحيا بالطرق الفلانية(، ومن يطُيع الإله يدخل الجنة ومن يعصيه يدخل النار، انتهت الصفقة! هذا الوضوح يسُهّل على الناس أن يسمحوا للدين تحديد العادات والقيم المشتركة التي تؤطر السلوك الإنساني.

الروحانية شيء مختلف، لنفكّر بطالب دخل الجامعة ليحصل على شهادة توُفر له عم الا مُريح براتب مناسب، وأثناء دراسته يكتشف انتشار الإيدز في أفريقيا –أو أي أزمة إنسانية أخرى-، ويقُرر بشكل مفاجئ أن يبتعد عن السياق العام لدراسته وعمله، ويقُرر أن يفُني وقته لمساعدة المجتمعات الأفريقية وخدمتها. هذا ما تعنيه

«رحلة روحانية».

لننظر في الإرث الديني الثنائي الذي لدينا: يؤمن بوجود إلهين، واحدٌ للخير وواحد للشر، ووفقا لهذه الثنائية فإن إله الخير خلق أروا احا طاهرة وخالدة تعيش في فضاء إيجابي، وإله الشر، الشيطان أحيانا، خلق عال اما آخر مكوّن من المادة. والإنسان روح طيبة خالدة في جسد) الروح من إله الخير والجسد من آلة الشرّ(مُكبل بشهوات دنيوية دنيئة، ومرتبط دو اما بشهوة الجنس والطعام والقوّة. ولذا، يدعو هذا التصوّر الثنائي إلى التحرر من القيود المادية الشهوانية لتأخذنا إلى عالم روحي غير الذي نعيشه في عالم المادة.

بسبب هذا الإرث صارت كل رحلة نشكك فيها بالمسلمات المعتمدة والأعراف وصفقات العالم الاعتيادي ونتخذ طريقا نحو المجهول نطلق عليها اسم رحلة روحانية. هذه المساعي الروحانية تختلف عن الأديان كثي ارا، فالأديان تسعى لتنظيم وتثبيت العالم الدنيوي والروحانية تسعى للتحرر منه. من المألوف في أي رحلة روحانية أن يتحدى الساعي المسلمات الإيمانية والأعراف في الدين السائد، لذلك تصبح الروحانيات خط ارا كبي ارا على الأديان، انظر للثورة البروتستانتية التي قامت على الكنيسة الكاثوليكية، لم يشُعلها ملحدٌ بل راهب مؤمن ومخلص؛ مارتن لوثر.

تاريخيا كانت «الرحلة الروحانية» مُناسبة للأفراد لً للمجتمعات ومُتسمة بصفة الوحدة.

التعاون الإنساني مبني على الأجوبة لً الأسئلة، ولذا من يتحدى النظم الدينية السائدة سيخرج بنظم أخرى بديلة، وهذا ما حصل مع مارتن لوثر، فبعد أن تحدى قوانين ومؤسسات وطقوس الكاثوليكية ،وجد نفسه يكتب كتب قانون جديدة ويؤسس مؤسسات جديدة ويبتكر طقوس جديدة، وهذا ما وقع مع المسيح وبوذا وآخرين أيضا. وبعد موتهم أصبح هناك ازدادت الطقوس والقوانين والنظم التي تحمل اسمهم.

 COUNTERFEITING GOD تزييف الإله

لفهم العلاقة بين الدين والعلم هناك منظوران مُتطرفان:

  • وجهة نظر ترى أن الدين عدوٌ للعلم، وما صار إليه العالم اليوم سببه العلم الذي دفع بنوره ظلام الجهل والدين، إنها المعرفة العلمية، عدوّة الخرافة الدينية. ولذا صار العالم أكثر علمانية وعقلانية وازدهرا.

بل قادت بعض الاكتشافات العلمية إلى تفكيك مبادئ دينية، ولكن ذلك لً يمُكن تعميمه فالسرد التاريخي الإسلامي يؤكد على أن الإسلام بدأ في القرن السابع في شبه الجزيرة العربية، وتوجد اليوم أدلة علمية واضحة تدعم هذا الطرح.

العلم يسُاعد الدين في تشكيل مؤسسات إنسانية فاعلة.

العلماء يدرسون «كيف» يعمل العالم، ولكن لً توجد نظرية أو منهج علمي لفهم كيفية السلوك الإنساني، ومايجب أن يكون.

يقدر العلم على رسم مخطط لجسر أو سد، لكن لً يستطيع أن يجيب عن الأسئلة الأخلاقية المرتبطة بتأثيرات هذا السد السلبية على البيئة المُحيطة به، أو عن المجتمعات المُهددة بالنزوح والحيوانات المُهددة بالانقراض.

  • وجهة نظر أخرى ترى العلم والدين، كل منهما، ينتمي لمملكة) عالم(مختلفة عن مملكة الآخر ولً يلتقيان.

العلم للحقائق والواقع، والدين يشرح القيم والمبادئ، لً الدين يتدخل في المادة، ولً العلم يتدخل بالقيم والمبادئ يبدو طرحا منطقيا؟  لكنه لًيعبرّ عن الدين بشكل كامل، الدين لًيقتصر فقط على الحكم الأخلاقي ويتعداه إلى طروحات عن الواقع، وهنا يقع الصدام مع العلم.

الجزء المهم في العقائد الدينية هو الطروحات الواقعية لًمبادئها الأخلاقية، كقول: الإله موجود، أو الروح تعُذبّ بذنوبها في الآخرة، أو ادعّاء أن الإنجيل مكتوب من قبل الإله لً الإنسان، معظم القضايا الجدلية بين العلم والدين مرتبطة بهذه الأطروحات لً بالمبادئ الأخلاقية. مثالا: الليبراليون والمسيحيون يتفقون على قداسة الحياة الإنسانية وحمايتها، ولكنهم يختلفون في مسألة الإجهاض، يعُارضه كثير من المسيحيين ويقبله عديدٌ من الليبراليين، ما نقطة الخلاف هنا؟ إنه ليس خلافا أخلاقيا، ولكنه خلاف حول حقيقة بيولوجية: متى تبدأ الحياة؟ عند التشكل الأول أم عند الولًدة، أم في مرحلة ما في المنتصف بين المرحلتين؟

يسوّق الدين لنفسه بقيم جميلة يختفي خلفها الإله. الكاثوليكية تدعّي بأنها دين المحبة والتراحم، ولكنها في نفس الوقت تدعو لًتباّع البابا الذي لً يخُطئ أبدا، حتى عندما يدعو إلى القيام بحملات صليبية لقتل «الكفار والمهرطقين». هذه التعليمات العملية لم تأتِ من أحكام ومبادئ أخلاقية بحتة، ولكنها جاءت من أطروحات واقعية وعمليةّ مخلوطة بأحكام أخلاقية.

بالنظر في السرديات الدينية نلاحظ أن معظمها تشمل ثلاث عناصر:

  1. أحكام أخلاقية – “حياة الإنسان مقدسة”.
  2. أطروحات واقعية – “حياة الإنسان تبدأ عند التشكل الأول.”
  3. خلط بين الأحكام الأخلاقية والطروحات الواقعية لتنتج تعليمات عملية – “لًيمكن السماح بالإجهاض ،حتى لو بعد يوم واحد من التشكل.”

عندما نستعمل البحث العلمي المنهجي ونتائجه لتقييم الطروحات الواقعية المرتبطة بالدين، نلاحظ أن هنالك أس اسا مركزية للدين تهُددَّْ، فعلى سبيل المثال عند مراجعة سؤال: من كتب الإنجيل؟ وما المرحلة الزمنية التي كُتب فيها؟ تتفق معظم الدراسات العلمية بأنه –الإنجيل- مجموعة من كتابات بشر مُختلفين كتبوها بعد قرون من الأحداث الموصوفة، ولم تجُمع في كتاب واحد إلً بعد فترة طويلة من المراحل الأولى تلك.

بإمكان العلم التحقق من السياق التاريخي للطروحات الواقعية أو حتى الأحكام الأخلاقية لدين معين، كمثال:

عن طريق تتبع المسار التاريخي لتحريم المثلية في اليهودية كان التحريم لأن بعض الكهنة معارضين للفكرة لا لأنها وردت في نصٍّّ معينّ.

العقيدة المقدسة HOLY DOGMA

ليس من السهل تفريق الحكم الأخلاقي من الطرح الواقعي.وعادة ما تخُفي الأحكام الأخلاقية بداخلها طروحات واقعية لً يرى طارحوها حاجة لتوضيحها )أو إثباتها( لاعتبارها مسلمة. مثال على ذلك: إن الطرح الأخلاقي «حياة الإنسان مقدسة»،) معلومة لً يستطيع العلم تأكيدها(، من الممكن أن يطغى على الطرح «كل إنسان لديه روح أبدية» )والتي هي مفتوحة للمناظرة العلمية.(

مع أن هناك مجال واسعا لم يستطع العلم المساهمة به في النقاشات الأخلاقية إلا أن هناك حدا معينا ليستطيع العلم أن يتجاوزه. لأنه بدون مساعدة دين ما فإنه من الصعب، بل من المستحيل، الإبقاء على بنُى اجتماعية واسعة.

حتى الجامعات والمختبرات تحتاج إلى دعم ديني، فالدين يعطي التبرير الأخلاقي للسعي والبحث العلمي، ولكنه كذلك يؤثر على الأجندة العلمية واستخدام الاكتشافات العلمية، ولذا من المهم عند دراستنا لتاريخ العلم أن نضع الاعتقادات الدينية لذلك العصر في الحسبان.

العلماء ليهتموني كثيرا بهذه الملاحظة، ولكنها حقيقة أن الثورة العلمية بدأت في أكثر المجتمعات تطرفا او تدينا وتعصبا في التاريخ.

في أغلب الأحيان نربط العلم بقيم العلمانية والتسامح، ولكن في بدايات التاريخ الحديث كانت أوروبا بعيدة كل البعد عن بيئة كهذه. كانت أوروبا في تلك الفترة قارة تحمل أعلى نسبة من المتطرفين في العالم. في ذات الوقت كانت مدن كالقاهرة واستنبول في القرن الخامس عشر مزدهرة وفيها تعدد وتنوع واسع سمح للمسيحيين واليهود والمسلمين السنة والشيعة وأحيانا حتى الهندوس، أن يتعايشوا بسلم وتناغم. كانت لندن وباريس متطرفتين إلى حد بعيد، والتعايش السلمي فقط يشمل الطائفة/ الدين الأكبر فقط. ومع ذلك نرى بأن الثورة العلمية أتت من المدن الغربية وليس القاهرة واستنبول.

من المعتاد أن ينظر إلى تاريخ الحداثة على أنه تضارب وتصارع ما بين الدين والعلم. نظر ياا، العلم والدين مهتمان بالحقيقة. ولأن كل منهما لديه رؤية مختلفة للحقيقة فكلاهما مُعرَّضان للتصادم لً محالة. ولكن في حقيقة الأمر، فإنهما) الدين والعلم( ليهتمان بشكل كبير بالحقيقة، ولذا فيسهل عليهم التنازل والتعايش وحتى التعاون. الدين بشكل أساسي مهتم بخلق وإبقاء نظم اجتماعية، وعلى الطرف الآخر، العلم مهتم بالقوة؛ من خلال البحوث العلمية يسعى العلم لتحصيل قوة علاج الأمراض وخوض الحروب وإنتاج الغذاء.

يعير العلماء والرهبان كأفراد اهتم ما كبيرا للحقيقة ولكن، عندما يتواجدون في مؤسسات جامعة، العلم والدين يفضلان القوة على الحقيقة. السعي الحثيث والدؤوب للحقيقة هو رحلة روحانية لًتتم داخل مؤسسات علمية ومدنية، فحدود هذه المؤسسات لًتحتملها.

من الأدق اذا رؤية التاريخ الحديث كعملية لتشكيل وعقد صفقة بين العلم من جهة وبين دين محدد من جهة أخرى، هو دين الإنسانية بشكل أساسي. المجتمع الحديث يؤمن بالعقيدة/الدوغمائية الإنسانية ويستعمل العلم لتطبيق هذه العقيدة بدلا منا إجابة التساؤلات المطروحة حول هذه العقيدة.

في القرن الواحد والعشرين، من غير المتوقع أن تستبدل الدوغمائية الإنسانوية النظريات العلمية الخالصة.

ولكن العِ قد[3] الرابط ما بين العلم والإنسانوية من المحتمل أن يبدأ بالتفكك مفسحا المجال لصفقة جديدة من نوع آخر، بين العلم من جهة وبين دين ما بعد-إنساني.

 الفصل السادس: عقد الحداثة

الحداثة ميثاق وعقد. عقدٌ وقعّناه جميعاً في اليوم الذي ولدنا فيه، وينظم حياتنا ليوم مماتنا، لا يتخطاه أو يلغيه إلا قلةّ قليلة منا. للوهلة الأولى قد تبدو الحداثة عقدًا شديد التعقيد، ولذا قليل من الناس من يحاول فهم ما وقع عليه. إلا أن الحداثة في الحقيقة عقد بسيط، يمكن تلخيصه في جملة واحدة: تخلي الإنسان عن المعنى مقابل القوة.

كانت الثقافات الإنسانية قبل عصر الحداثة تؤمن بأن الإنسان لاعبٌ في خطة كونية عظيمة لا يستطيع تغييرها. من هذه الخطة يستمد الإنسان معناه ومعنى حياته، ولكنها في ذات الوقت تحد من قوته فهو لا يستطيع أن يخرج عن الدور المرسوم له في السيناريو. في مقابل تخلي الإنسان عن القوة، التي سببت له بعض المصاعب، إلا أنها آمدته بمناعة نفسية تجاه الكوارث. مع كل كارثة أو مصيبة  ر  كن الإنسان إلى الاعتقاد بأن لكل شيء غاية سيؤول إليها ،اعتمادًا على أن كل شيء سيؤول للأفضل إن لم يكن الآن فبعد حين.

على النقيض، الثقافة الحداثية تؤمن بخلو الحياة من أي معنى أو سيناريو، لا سيناريو أو مخرج أو متحكم بمسارها: الكون أعمى ويتحرك بعشوائية وبلا معنى. ومن ثمّ نكون نحن ال منقذ الوحيد لذواتنا إذا ما حلتّ كارثة طبيعية بالبشرية .فما يهم هنا والآن هو سبب الحدث، لا معنى ما حدث. والأهم؛ أدوارنا ليست محددة مسبقاً ولا حدود لنا إلا جهلنا، صحيح أنه لا وجود لجنة تنتظرنا في الآخرة، ولكن يمكننا خلقها هنا على الأرض، نعيش فيها للأبد، بشرط أن نتغلب على بعض المشاكل التقنية، في يوم ما سنتوصل لإكسير الشباب الأبدي، إكسير السعادة الخالصة وأي شيء آخر نحلم به.

نعم قد تكون الحداثة أمدتنا بقوة كبيرة وجعلتها تقريباً في متناول أيدينا ولكن، نحن على شفا هاوية العدمية الكاملة. الحياة الحديثة بحثٌ دائم ومستميت عن القوة في كون بلا معنى، وهنا كانت المعاناة من الهواجس الوجودية حاضرةً كما لم تكن في ثقافة ما في أيّ وقت مضى، نظنّ أننا أذكياء بما فيه الكفاية لربح صفقة الحداثة دون أن ندفع الثمن. في هذا الفصل سنناقش سعي الإنسان اليوم للقوة) السيطرة(،وفي الفصل القادم سنفحص محاولة البشرية لاستعادة المعنى مرة أخرى إلى العدمية اللامتناهية للكون!

لماذا يختلف المصرفيون عن مصاصي الدماءWHY BANKERS ARE DIFFERENT FROM VAMPIRE

مُحرّك سعينا للقوة هو التحالف بين التقدم العملي والنمو الاقتصادي، كلنا اليوم مهووسون بالنمو، أما إنسانا ما قبل الحداثة كان غاف الا عنه.

كانت الموارد المالية شحيحة لقلة الائتمان، وقلة الائتمان كانت نابعة من عدم إيمان الناس بالنمو؛ ويرجع ذلك كله لسبب الركود الاقتصادي. وهكذا دواليك. إلا أن هذه الدائرة المُغلقة كسرت في عصر الحداثة لأن الإنسان آمن  بإمكانية النمو الاقتصادي، وازدادت ثقة الناس بالمستقبل، وبسبب الائتمان المصرفي وما تبعه من معجزات .في البورصة كل شيءٍّ يمُثلّ فرصة اقتصادية، حتى الأوبئة والأمراض، تزداد ثقة الناس بالمستقبل بنجاح ما يكفي من المشاريع؛ تزداد سعة الائتمان والقروض ،وتقل أسعار الفائدة على الديون وبذلك يتابع رواد الأعمال تحصيل المزيد من الأموال وينمو الاقتصاد ويتقدم معه العلم.

اعتقد الناس قدي اما أن الصراعات الوجودية للبقاء على قيد الحياة نتيجتها أن يعيش طرف على حساب الطرف الآخر في لعبة صفرية، إما أنت أو أنا. كان هذا الإيمان نابعا من موروثهم في التطور وتصورهم عن سنة الكون وتوازن البيئة. إلً أن بعض الحقائق البيئية أكثر تعقيدا ولً ضرورة لأن تكون الصراعات الوجودية كلها ألعابا صفرية؛ بعض الحيوانات تتعاون مع بعضها في بفاعلية، بل ويقرض بعضهم بع اضا، كالوطاويط على سبيل المثال، إذ تقرض بعضها البعض الدم أثناء مواجهتها لتقلبات حياتها، على عكس المصرفيين، لً يفرض الوطواط المُقرض أي فائدة على المُقترض، بل لً يستخدم القروض في تمويل مشروع تجاري جديد أو لتشجيع النمو في سوق مصاصي الدماء، ل م؟ لأن الخفاّش ببساطة لً يؤمن بالتطور والنمو؛ ولهذا كان صعبا على الإنسان أن يؤمن به كذلك.

 THE MIRACLE PIE الفطيرة المعجزة

الضغوط التي صاحبت التطور عودت الإنسان أن يرى العالم كفطيرة جامدة، ولذا سعت الأديان التقليدية كالإسلام والمسيحية إلى حل مشاكل البشرية باستخدام الموارد الموجودة، إما بإعادة توزيعها أو بوعدٍّ بنصيب إضافي من الفطيرة في السماء، على العكس من ذلك ترى الحداثة أن النمو الاقتصادي أساسيّ للغاية، متمحورا حول فكرة «إذا واجهتك مشكلة ما فأنت بحاجة إلى المزيد من الموارد، ولكي تحصل على المزيد قم بإنتاجه».

يصُرّ السياسيون والاقتصاديون المُعاصرون على أهميةّ النمو لثلاثة أسباب مهمة:

  • حين ننتج المزيد، سنستهلك المزيد، وسنعيش بشكل أفضل ومن ثمّ سنستمتع بحياة أكثر سعادة.
  • ما دامت البشرية في تكاثر مستمر فنحن بحاجة للنمو لنحافظ على ما اكتسبناه حتى الآن.
  • أنت في حاجة إلى شطيرة أكبر! أنت كذلك إن كنت تتمنى تجنب الخيارات الصعبة والعنف،) كأن تقطع الدعم عن الفقراء أو أن تأخذ من الأغنياء وتعطيهم وما يتبع ذلك من نتائج اقتصادية وسياسية واجتماعية إلخ(، ألست في حاجة لشطيرة أكبر؟

فكرة «المزيد من الأشياء والمواد» حوَّلتها الحداثة إلى دواء شافٍّ وفعاّل لكل الشؤون العامة والخاصة، من مشاكل التعصب والأصولية الدينية إلى الزواج الفاشل في مصر. إذا تمتعت البلدان التي يخرج منها المتعصبون بمعدل نمو أعلى وحياة مرفهة أكثر للأفراد فلن يتحاربوا من أجل نصيب سماوي موعود ،وبالمثل، إذا تمتع الأزواج المستاؤون من بعضهم البعض ببيت أكبر ومرفه فسيستمر زواجهم على نحو أفضل.

وبالتالي صار الازدهار الاقتصادي هو نقطة الاتصال والاتفاق التي تجتمع حولها كل المذاهب والأيديولوجيات والحركات والأديان الحديثة. اتفق الماركسي والليبرالي في فترة الحرب الباردة على خلق جنة أرضية عن طريق النمو الاقتصادي، وآمن المسلم والمسيحي بالجنة؛ كلا الطرفين اختلفا على الطريقة المثلى للوصول إلى الجنّة. إلً أن المسلم المتدين والهندوسي المجدد والقومي الياباني والصيني الشيوعي جميعهم آمنوا أن تحقيق النمو ولازدهار الاقتصادي هو السبيل الوحيد لتحقيق غاياتهم وأهدافهم على اختلافها. في الحقيقة، لسنا مُخطئين إذا اعتبرنا الإيمان بالنمو الاقتصادي دينا، لأنه يدعّى مقدرته على حل معظم، إن لم يكن كل، مشكلاتنا الأخلاقية. فأتباع هذه الديانة ليأنفون من تجاهل كل اختلافاتهم الأخلاقية وفعل أي شيء في سبيل تعزيز النمو على المدى الطويل.

إن رأسمالية السوق الحر تؤكد استباحة كل شيء إذا كان مطلوبا لتحقيق هذا النمو، حتى إذا توجب علينا إضعاف الروابط الأسرية أو تجاهل قيمنا وعاداتنا التقليدية، أو حتى البيئة ومشاكل الحفاظ عليها.. إلخ، عندما طرحت الرأسمالية هذا الحكم الأخلاقي تحوّلت من علم إلى دين. ولإيمانها المطلق بقيمة النمو في حد ذاتها، كانت وصيتها الأولى والأخيرة أن يستثمر الناس أرباحهم في زيادة النمو، فضمان عدم توقف عجلة النمو هو استمرارية نظام البنوك والقروض والفوائد ولاستثمارات ووجود الثقة في هذه العملية ككل .يربح الجميع في هذه اللعبة، وهنا تنالُ الرأسمالية بعض التقدير لأنها كانت سببا في تحقيق بعض معجزاتها الموعودة هنا على الأرض وتقليلها من العنف الإنساني.

 THE ARK SYNDROME متلازمة سفينة نوح

ولكن هل يمكن أن يتُابع الاقتصاد نموه دائما؟ لضمان نمو دائم علينا أن نكتشف مصادرا لًتنضب من الموارد والطاقة .كانت المواد الخام والطاقة هي الموارد في التصوّر القديم، إلأننا اليوم نتعامل مع 3 أنواع منها: المواد الخام والطاقة والمعرفة .والأخيرة مورد لًينضب، بل يزداد ويتعمّق مع استخدامنا له واستثمارنا فيه .عندما نستثمر المليارات في البحث العملي عن الطاقة الشمسية وتثمر نتائج البحث كما يجب، فنحن نضمن لنا وللأجيال القادمة مصادر أكثر وأوفر للطاقة.

الاكتشاف الأعظم للثورة الصناعية هو اكتشاف جهلنا ومدى حاجتنا لمعرفة المزيد عن العالم. إذا نظرنا في العشرين عاما القادمة، يمكننا أن نتوقع بثقة تامة أن انتاجنا واستهلاكنا سيكونان أكبر بكثير مما هما عليه الآن. نحن نثق بالنانوتكنولوجي والهندسة الجينية والذكاء الاصطناعي الذي سيعيد هيكلة نظمنا الصناعية ويحدث ثورة فيها،وبذلك يمنحنا أقسا اما جديدة تما اما في أسواقنا دائمة التمدد.

قد تتُاح لنا فرصة التغلب على مشكلة قلةّ الموارد، ولكن أكبر مُعيق لتقدمّ الاقتصاد اليوم هو انهيار النظام البيئي وتدمره، كلفة تدمير النظام الحيوي من أجل التقدم والنمو كلفة باهظة سياسيا واقتصاديا ومعيشيا، كلفة لانطُيقها؛ تهديد الوجود الإنساني، تكلفة كهذه تتطلب منا إيقاف أو إبطاء السرعة التي تمضي بها عملية التقدم، إلً أن الجشع الإنساني غالبا ولن يكتفي بما يملكه الآن، على العكس، يحثه جشعه على أن  يسُرّع العملية أكثر فأكثر، وفي حال حصل ذلك، وزعزعت اختراعاتنا استقرار النظام الحيوي، فعلينا اختراع أشياء تحمينا من تلوث الأرض والهواء والماء، وعلينا أن نخلق مساحات بديلة على الأرض لنعيش فيها ولو كانت البيئة في أقصى مستويات تلوثها.

الإنسانية مُحاصرة الآن في سباق مزدوج، نشعر من ناحية بأننا ملزمون بتسريع مسارات التقدم العلمي والاقتصادي ومواكبتها، فيتساءل فقراء الهند والصين لم عليهم أن يتخلوا عن أحلامهم بالرفاهية والعيش الرغيد في حين لًيعبأ الأمريكيون بالتلوث أو بمصير البيئة؟

ومن ناحية آخرى يجب علينا أن نسبق الكارثة البيئية بخطوة واحدة على الأقل، إدارة السباق تزداد صعوبة يوما بعد يوم مع استمرار سعينا لتحسين ظروفنا المعيشية ورفاهيتنا، عدا عن كون نجاحنا في التغلب على الكوارث البيئية ليس مضمونا مستقبليا وفقا لأي قانون من قوانين الطبيعة، رهاننا على العلم في تحقيق التوازن ليس رهانا مضمونا، ولً ننسى أن العدالة لم توجد على مر التاريخ، الفقراء كانوا وسيظلون دافعي ثمن الكوارث الطبيعية أو حالًة الركود الاقتصادي. والمفارقة! قوة العلم الحقيقية تزيد من الخطر الذي يواجه الفقراء، إذ تشعر الأغنياء بالرضا عن أنفسهم وواقعهم. فعلى سبيل المثال، كل المعاهدات الدولية الخاصة بالحد من غاز ثاني أكسيد الكربون ومشتقاته الضارة بطبقة الأوزون لم تدخل حيز التنفيذ الفعال، بل إن أكبر منتج لهذا الغاز، الولًيات المتحدة الأمريكية، لم توقع أهم معاهدة ولم تبدِ أي بادرة لتقليل انبعاث هذه الغازات. الطريقة الوحيدة الآن لوقف الانحباس الحراري في أن نوقف النمو الاقتصادي، وهو ما لن ترضاه أي حكومة عوضا عن تبنيه. العجيب أن معظم المؤمنين الحقيقيين بمبدأ النمو لً يأملون فقط في حدوث المعجزات، بل يعتقدون أنها ستحدث بالفعل! )المعجزات التي سوف تقيهم من الكارثة المنتظرة وانهيار العالم.(

هل من العقلاني أن نخُاطر بمستقبل البشرية بتعليق المسؤولية على كاهل العلماء ليخترعوا شيئا ما لإنقاذ الكوكب؟ معظم الرؤساء والساسة عقلانيون، ولكن لعلّ سبب مقامرتهم بمستقبل البشرية أنهم لً يشعرون بأن الرهان على مستقبلهم هم، مستقبلهم الشخصي. الإيمان بسفينة نوح فائقة الذكاء[4] وقدرتنا على بنائها هو ما يهدد مستقبل البشرية والنظام الحيوي، تشُعرنا بأن العواقب مأمونة، وعليه، لًيجب أن توضع مسؤولية سلامة النظام البيئي على عاتق من يؤمنون بسفينة نوح؛ كما لً يجب للمؤمنين بالجنة السماوية الموعودة أن يمتلكوا أسلحة نووية.

 THE RAT RACE سباق الفئران

كان يفُترض بالتطور العلمي والاقتصادي أن يكون طريقا لرفاهيتنا وراحة بالنا، «كان» يفُترض، ان الواقع مختلف تماما:

  • على المستوى الفردي قادنا السباق إلى مستويات عالية من التوتر والقلق، والسبب يرجع إلى ميثاق الحداثة الذي وقعناه جميعا يوم ولدنا. صرنا وبشكل دائم نسعى للمزيد من كل شيء! وما كان رفاهية بالأمس، صار حاجة اليوم.
  • على المستوى الجماعي، أدىّ هذا السباق إلي اضطرابات عديدة لً تتوقف، فاليوم كل جيل يهدم ما بناه الجيل السابق ويستبدله ببناء آخر فمشت كل العلاقات الراسخة والتحيزات القديمة وحتي البنى الجديدة صارت قديمة وتهجر قبل أوانها بكثير.

لم يعد سهلا العيش في عالم فوضوي كهذا يصعبُ حكمه، وكل ما يحصل من أجل «النمو» كأسمى غاية تحملها الحداثة ويضُحى من أجلها بكل شيء، لقد صبغت قيمة النمو كل مجلات الحياة وصار النجاح يقُاس بالنمو والزيادة ولم يعد الاتزان شيئا محبذا أبدا.

يغلب الطمع الإنسان بسهولة، واز ن جشع الإنسان القيم التي حملتها مؤسسات المجتمعات القديمة، كان الاعتقاد السائد يقول بأن الشطيرة التي بين يدي البشر صغيرة وحجمها ثابت، ولذا عليها أن تتشاركها فيتناغم اجتماعي أساسه ردع جشع الإنسان، نعم! كان الجشع «سيئا»، أما الآن فالحداثة تشجع الناس على كسب المزيد وأزالت الصورة السلبية عن الجشع بعد أن كانت تكبح جماحه.

الرأسمالية حدتّ من وطأة كل ما كان يثير القلق من الحداثة، وهذا كان سببا رئيسيا في انتشارها.

كانت فكرة اليد الخفية للسوق والنمو المستمر للاقتصاد أفكارا ساعدت على إطلاق عنان الطمع الإنساني، نعم وعدتنا الحداثة بميثاقها بأن تمنحنا قوّة غير مسبوقة، وقد تحقق الوعد، ولكن ماذا عن الثمن؟ التخلي عن المعنى من أجل القوة أن يجرّ البشرية لعالم مظلم منزوع الأخلاق والجماليات والشفقة. فكيف إذن نجت الفضيلة والجمال وازدهرت في عالم خالٍّ من الآلهة والجنة والنار؟  لقد أنُقذت البشرية، ليس عن طريق قانون العرض والطلب[5]، ولكن عن طريق صعود دين ثوري جديد وهو الإنسانية.

تمهيد[1]

منذ بداية التاريخ الإنساني، كان لمفهوم “الخطة الكونية “حيزٌ كبيرٌ في فهم الإنسان للحياة ،مُعتقداً أن كل شيء يسير وفق خطة محكمة رسمها الإله وينُفذ الإنسان جزء منها.

متى سيتمكن الإنسان من اكتساب السلطة والقوة؟ عندما يتخلص من قداسة هذه الفكرة، فكرة الخطة الكونية.

يجب على المشاريع السياسية والفنية والدينية اليوم أن تبحث عن معنى الحياة من دون تقييد نفسها بمفهوم الخطة الكونية. كان الأنبياء والفلاسفة يدعّون أن العالم سينهار إذا نادينا بموت الإله، وقد فعلنا، ولم يحصل شيء، انظر من حولك! سوريا الدينية تشهد انهيارًا وعنفاً هائلًا أكبر من الذي تشهده هولندا العلمانيّة.

عرض التلخيص

 انظر إلى داخلك LOOK INSIDE

لننظر إلى الفرق بين بين ثقافة أوروبا العصور الوسطى وبين الثقافة المعاصرة، في 1300 ميلادي، كانت الآلهة تعرف الخير والشر، الآلهة لا الإنسان، وبسبب هذا التصوّر جُعل الإله لا مصدرًا للمعنى فحسب، ولكن مصدرً ا للسلطة أيضًا.

سابقاً كان «الإله» و«الله»، آلهة المسيحيين وإله المسلمين، أما الآن فقد رُفع الإنسان لمرتبة الإله في مذهب الإنسانويّة، وصار الإنسان مصدر المعنى في الكون، اليوم تجُادل الإنسانوية بأن الإنسان وتجربته تعتبر مصدر المعنى، وأن إرادة الإنسان الحرة هي أعلى مستويات السلطة والقوة.

لنتخيلّ سيدة تحاول فهم مسألة ما، ستنظر أولًا في شعورها الداخلي تجاه المسألة، إن لم تجد الإجابة ستسأل صديقتها، وإذا ظلتّ المسألة عالقة فستتجه إلى المُعالج الذي، طبعاً، لن يستخدم الكتب المقدسة بدلًا من النظريات والأدوات التحليلية للتشخيص DSM Diagnosis.

الإنسانوية علمتنا أن الخطيئة تجعل شعورنا سيئاً؛ القتل خطيئة لا لأن الآلهة حرّمت ذلك، وإنما لأنها تسبب معاناة فظيعة لإنسان آخر. أليسَ هذا منطق المثلية؟ رجلان يمارسان الجنس ويشعران بالسعادة دون إيذاء أحدٍ آخر، لمَ قد يكون هذا الفعل خطأ؟

شعورنا هو الذي يضفي المعنى على النظم السياسية والاجتماعية، وكذلك يوجّه شعورنا تصرفاتنا فعندما نريد أن نصوّ ت لشخص ما بدلًا من منافسه، فنحن نتبع ما «نظنه» عن الشخص الآخر، لا ما يقوله النص المقدس.

“نحن نؤمن أن الناخب يعلم الأفضل” كيف؟ عندما لا نجعل الدعاية مصدر الهامنا وقرارنا وأحكامنا تصدر بشكل موضوعي.

ما مصدر الفن –وفقاً للإنسانوية-؟ الشعور الإنساني. الفنان اليوم يحاول الاتصال بذاته لا بالإله.

في الأخلاق، شعار الإنسانويين هو ” افعل ما يحلو لك”، في السياسة، الإنسانية تخُبرنا بأن ” الناخب يعرف الأفضل”. في الجماليات” الجمال في عين الناظر”.

واستطاعت الإنسانوية أن تقُدم لنا فهمًا عميقاً في حقل الاقتصاد يقوم على مبدأ السوق الحرة، وأن «الزبون دائمًا على حق»، في التعليم ايضًا كان شعارها “فكر بنفسك”.

FOLLOW THE YELLOW اتبع الطريق الذهبي

 BRICK ROAD

  • في العصور الوسطى لأوروبا، كانت المعادلة الرئيسية للمعرفة هي: النص المُقدس
    • المنطق= المعرفة، أي لنفهم النص المقدس علينا أن نعُمر عقولنا بطريقة منطقية، وكانت نتيجة هذه المعادلة إنكار كروية الأرض!
    • أما الثورة العلمية فقد قدمت نموذجًا مغايرًا بمعادلة جديدة هي: البيانات التجريبية الرياضيات= المعرفة، لنكتسب المعرفة علينا أن نجمع قدر الإمكان بيانات تجريبية وأن نرسم حدود الأدوات الرياضيات حتى نتمكن من تحليل البيانات وتفسيرها بشكل صحيح.
  • الإنسانوية تقدم المعرفة الأخلاقية بناءً على المعادلة التالية: التجارب * الإحساس= المعرفة.

التجربة الإنسانية هنا ليست «بيانات تجريبية» وإنما تجربة ذاتية مكونة من ثلاث عناصر: الإحساس، والمشاعر، والأفكار .

ما هي الحساسية؟ أن تنتبه لأحاسيسك وتسمح لها بالتأثير عليك.

 THE TRUTH ABOUT WAR حقيقة الحرب

تغيرّ فهمنا للحروب بسبب معادلة الحساسية * التجارب= المعرفة.

منذ آلاف السنين، نظرت الشعوب للحرب مرتبطةً بمفهوم الآلهة، فيهتمون بالأباطرة والجنرالات والأبطال. أما في القرون الماضية قلُبت الأمور ونقُلت الأضواء على الجندي العادي وتجربته وآلامه، فقد الفنانون اهتمامهم بالجنرالات وتكتيكاتهم الحربية ،وصبوّا اهتمامهم بمشاعر الجندي العادي وحياته.

 

نظر الفنان المُعاصر للتجربة الإنسانية كمصدر أساسي للمعنى، وكأنه يقول بلسان الجندي «أنا أشعر بالمعاناة – وهذا سيء – ولذا الحرب هي الشر بعينه. ولو دعم القيصر ورجال الدين هذه الحرب قد يكونون مخطئين»، أما الجندي الكاثولوكي فسيقول:«صحيح أنني أشعر بالمعاناة، ولكن البابا والإمبراطور قالوا أننا نقاتل من أجل الخير، وبالتالي فإن معاناتي لها معنى سامي».

 THE HUMANIST SCHISM اختلاف الإنسانويين

تؤمن طوائف الإنسانوية بأن المصدر الأساسي للسلطة والمعنى هي التجربة الإنسانية ،ومع ذلك كان لهذه الطوائف تفسيرات مختلفة للتجربة الإنسانية.

الثلاث فروع الأساسية للإنسانوية هي كالتالي:

  1. الفرع الأورثوذوكسي المعروف ب «الإنسانوية الليبرالية» أو «الليبرالية»، والذي ينادي بفردانية الإنسان وأن كل فرد ينير عالمًا مكون من أطياف كثيرة، ولذا يجب علينا الدفع نحو مزيد من الحرية للأفراد. الليبرالية بالسياسة تؤمن أن الناخب يعرف جيداً الخيار الأفضل، الفن الليبرالي ينادي بأن الجمال في عين الناظر ،والاقتصاد الليبرالي يؤمن أن الزبون على حق دائمًا، الأخلاق الليبرالية ترشدنا أنه إذا كانت التجربة تمنحك إحساسًا جيداً، افعلها، والتعليم الليبرالي يعلمنا أن نفكر بأنفسنا، لأننا سنجد الإجابة في داخلنا.
  2. اكتسبت الإنسانوية رصيداً أكبر على المستوى الاجتماعي والسياسي، وأصبحت الإنسانوية الاشتراكية التي شملت الحركات الاشتراكية والشيوعية.
  3. الإنسانوية التطورية والتي أخذت شكل الحركات النازية والستالينية.

في 17 يوليو 2015، واجهت فتاة فلسطينية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقد كانت عائلة الفتاة تحاول الحصول على لجوء في ألمانيا، قالت الفتاة لميركل:«من المحزن جداً أنني أرى الناس يحظون بحياة سعيدة هنا ولكن نحن لا نستطيع»، فأجابت ميركل:«أحياناً تكون السياسة قاسية»، وأنه يصعب استقبال جميع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان داخل ألمانيا .

قامت الجهات الإعلامية بشن حملات ضد المستشارة ميركل تتهمها بفقدان الحس الإنساني، وبعد هذه الحادثة فتحت ميركل باب اللجوء إلى ألمانيا، فهُوجمت مرةً أخرى بشدة بأنها سلمت لعاطفتها وتجاهلت أن فتح باب اللجوء قد يتسبب في خفض مستوى المعيشة للفرد الألماني وقد يؤدي إلى أسلمة المجتمع، عدا عن كون الشعب الألماني غير مضطرًا لاستقبال شعوب لا تؤمن بالقيم الليبرالية. الجميع منشغل اليوم في حل هذه المتناقضة بين يئس اللاجئين وقلق الألمان.

في سعي الليبراليين لحل هذه المعضلة قالوا: لو أردنا أن  نُقيم انتخابات ديمقراطية، هل سيكون النخابون ألماناً فحسب؟ أم سيكون معهم ملايين الآسيويين أو الأفارقة الراغبين بالهجرة؟ لماذا يتم التمييز بين مجموعة دون الأخرى؟ بنفس هذا المنطق، لا يمكن أن  يحُل الصراع العربي-الاسرائيلي بتصويت 8 ملايين مواطن إسرائيلي مقابل 350 مليون مواطن عربي .من الواضح أن الإسرائيليين لن يرضوا بنتيجة هذا الاستفتاء .

سيشعر الناس بمعنى الديمقراطية الحقيقي إذا تمّت العملية بين ناسٍ  تجمعهم رابطة ما، وهي رابطة القومية المواكبة لقيم الليبرالية.

هذا المبدأ هو الذي تشكل عليه الإتحاد الأوروبي، وفي 2004 دشُّن ميثاق الاتحاد الأوروبي الذي ينص على أن أوروبا «موحدة بالاختلاف»، وتبقى الرابطة بين شعوب أوروبا المختلفة هي «الاعتزاز بهويتنا القومية». بالطبع تحالف الليبرالية مع القومية بالكاد ح ل  هذه المعضلة، ولكن هل قامت بحل مشكلة ملايين اللاجئين الذي يرغبون بالهجرة إلى ألمانيا؟

  • الإنسانوية الإشتراكية أخذت اتجاهًا مغايرًا لليبرالية، لأنها لا تعطي قدرًا من الأهمية لمشاعرنا الداخلية كالليبرالية، ما يحقق السلام بالنسبة للاشتراكية توحيد جميع العاملين في العالم ،ويتمّ الانسجام المجتمعي بالإيثار، أي أن تقدمّ مصلحة الآخرين على مصلحتك الفردية، ووفقاً لهذا المنطق تقول الإشتراكية في السياسة أن الحزب- الكلّ أو الجماعة هنا- يدُرك الأفضل، وفي الاقتصاد ترى الاشتراكية بأن اتحاد العمال على حق دائمًا.

  • قدمت الإنسانوية التطورية حلولًا مختلفة للمشاكل التي قد تنشأ من التجارب الإنسانية، يعود أصل هذه الحلول إلى داروين ونظرية التطور: الصراع هو البنية الأساسية لعملية الانتخاب الطبيعية والبقاء للأقوى، وعملية التطور ستدفع بالإنسان الأقوى للبقاء والتطوّر إلى أن يصير إنساناً خارقاً. أما حقوق الإنسان أو المساواة بين البشر س تضُعف الإنسان الأصلح وستمنع ظهور الرجل الخارق!

تعتبر الإنسانوية التطورية تجربة الحروب مهمة جداً للإنسانية. اكتشف أدولف هتلر حقيقة الحياة، الحياة كالغابة لا رحمة فيها ولا شفقة فهي تسير وفقاً لقوانين الانتخاب الطبيعي، ومن يرفض هذه الحقيقة لا يستطيع البقاء، هذه الحقيقة هي التي جعلت الشعب الألماني يصوّ ت لهتلر، لأن الشعب آمن بأن العالم غابة وما لا يقتلنا يجعلنا أقوى!

قامت الإنسانوية التطورية بلعب دور مهم في تشكيل الحضارة المعاصرة، ويبدو أنها ستلعب دور أهم في تشكيل القرن الواحد والعشرين.

 هل بيتهوفن أفضل من شك بيري؟ IS BEETHOVEN

 BETTER THAN CHUCK BERRY

حتى نتمكن من فهم الفرق بين فروع الإنسانوية الثلاث، سنقُارن التجارب التالية:

  1. التجربة# 1: بروفسور موسيقيات يجلس في دار الأوبرا في فيينا، يستمع لافتتاحية سيمفونية بيتوهوفن الخامسة «با با با بام!»، تسري القشعريرة في جسم البروفسور حتى أسفل عاموده الفقري، ويرُدد:القشعريرة تسير في جسم البروفسور وتصل إلى أسفل عاموده الفقري ويردد «با با با بام!».
  2. التجربة# 2: سائق سيارة موستنج، يتجول في الطريق السريع الواصل بين سان فرانسيسكو ولوس انجلوس، وسيارته تصدح بأعلى صوت أغنية شاك بيري «اذهب! اذهب، جوني، اذهب!»، تسري القشعريرة في جسم سائق السيارة حتى أسفل عاموده الفقري ويبدأ بغناء «اذهب! اذهب، جوني، اذهب!»
  3. التجربة# 3: يقف الصياد الصغير في أدغال الكونغو بحثاً عن عشائه، فيسمع صوتاً من القريبة القريبة لفتاة تغني «ييي اوه، اووه. يي اوه ايه»، مُجدداً، تسري القشعريرة في جسد الصياد الصغيرة حتى أسفل عاموده الفقري ويبدأ بغناء «ييي اوه، اووه. يي اوه ايه».
  4. التجربة# 4: في ليلة في جبال كندا والقمر مكتمل، ذئبٌ يقف على تلة مرتفعة، يسمع عواء فتاة «عاوووووو! عاوووووو!» تسري القشعريرة في جسد الذئب حتى أسفل عاموده الفقري ويبدأ بترديد «عاوووووو! عاوووووو!».

سيميل الليبراليون للقول بأن تجاربهم جميعاً، البروفسور والسائق والصياد، ذات قيمة متساوية ،لأن الجمال يوجد في أذن السامع .

الاشتراكيون سيقولون أن الموسيقى لا تعتمد فقط على تجربة الفرد المستمع وإنما على أثر هذه التجربة على المجتمع ككل، ولتقييم أعمال بييتهوفن سيطُرح سؤال إذا ما كان النص الموسيقي قد كُتب للطبقة العليا من المجتمع.

الإنسانويين التطوريون قد يتفقون مع الليبراليين والإشتراكيين مع إسقاط على تجربة الحيوان، فسيقولون أن الإنسان متفوق على الحيوان ومن ثمّ لتجربته قيمة أكبر، بالنسبة للإنسانويين التطوريون أي شخص يد عّي أن التجارب الإنسانية متساوية إما أبله أو جبان.

 حروب الإنسانويين الدينية THE HUMANIST

 WARS OF RELIGION

الفروقات بين طوائف الإنسانوية تبدو تافهةً إذا قورنت بالفروق التي بين الأديان؛ المسيحية والإسلام والبوذية. إذا اتفقنا جميعاً على أن الإله قد مات وأن التجربة الإنسانية هي مصدر المعنى، فهل سيكون مهمًا أن نعرف إذا ما كانت التجارب الإنسانية متساوية أو أنه توجد تجربة أسمى من الأخرى؟

في كريسماس 1914، هاجم اليسار واليمين الأفكارَ الليبرالية. اد عّى الاشتراكيون أن النظام الليبرالي نظامٌ هش وعنصري؛ إذ ماذا تعني حرية الفرد إذا لم يستطع أن يدفع إيجار بيته؟ أو أقساط المدارس والجامعات؟  ومن ث م  ستخلق الليبرالية حالة مستمرة من عدم المساواة.

العنصريون والفاشيون اتهموا الليبرالية والاشتراكية بتخريب المنظومة القيمية لعملية الانتخاب الطبيعي بدعوى الفرص المتساوية بين طبقات المجتمع الواحد.

منذ 1914 وحتى 1989 قامت حروب طاحنة بين هذه الطوائف الثلاث، الحرب العالمية الثانية التي بدأت في سبتمبر 1939، كانت نتيجة صراع بين التحالف الليبرالي وألمانيا النازية المنكفئة على نفسها، تم تعّ الحلفاء الليبراليون باقتصاد مُ زدهر وفي حين كان إجمالي الناتج المحلي للألمان في سنة 1940 $387 مليون، كان إجمالي الناتج المحلي لخصوم ألمانيا الأوروبيين$ 631 مليون، وهذا ما جعل ألمانيا تفرض سيطرتها على فرنسا والنرويج والدنمارك. بريطانيا التي نجت من الموت بسبب القناة الإنجليزية التي تفصل جنوب بريطانيا عن شمال فرنسا وتربط جنوب البحر الشمالي في المحيط الأطلنطي، والاتحاد السوفييتي الشيوعي الذي دخل الحرب كقوة عظمى، الحزب الشيوعي الصيني انتصر في حربه الأهلية، والولايات المتحدة الأمريكية أصيبت بهستيريا الشيوعية، لطالما كانت الحركات الثورية والمكافحة للاستعمار تنظر إلى موسكو وبكين كمثال يتحذى به، بينما كانت هوية الليبرالي محددة من قبل الإمبراطوريات الأوروبية العنصرية. وعند انهيار هذه الإمبراطوريات استبُدلت بديكتاتوريين عساكر أو أنظمة إشتراكية، ولكن لم يسُتبدلوا بالديمقراطية الليبرالية.

لطالما بَدتَ الديمقراطية الليبرالية كنادٍ  حصري للإمبراطوريات البيضاء. واشنطن التي ادعت أنها رائدة السوق الحرة في العالم كان حلفاؤها إما الملوك الإستبداديون )ملك السعودية خالد، حسن ملك المغرب وشاه فارس( أو دكتاتوريين عساكر) الكولونيل اليوناني، الجنرال بينوشيه في شيلي، الجنرال فرانكو في إسبانيا(.

قامت الليبرالية الديمقراطية بترتيب مقولتها وتطهير تجربتها ومن ثم غزت العالم ،السوبرماركت أثبت أنه أقوى من معسكرات العمل الشيوعية. في عام 1977 أحضر غاندي الديمقراطية إلى الهند وفي 1980 تم استبدال الديكتاتوريين العساكر بأنظمة ديمقراطية في شرق آسيا وأمريكيا اللاتينية، في البرازيل والأرجنتين، وتايوان وجنوب كوريا .

الليبرالية حققت نصرًا عظيمًا في الحرب الباردة، ومع كل هذا ما زالت الليبرالية تؤمن بقدسية صوت الناخب والزبون، وفي بداية القرن الواحد والعشرين ،أصبحت الليبرالية المنظومة القيمية المهيمنة على العالم.

 الكهرباء والجينات والإسلام المتطرف  ,ELECTRICITY

 GENETICS AND RADICAL ISLAM

يبدو أن الصين ستكون منافسًا قويا للمعسكر الغربي، ولكن الصين التي لا تزال شيوعية تعيش واقعاً مغايرًا لشيوعيتها، فبعض المفكرين الصينيين ينادون بعودة الصين للفلسفة الكونفوشيوسية، الفراغ الأيدولوجي يجعل الصين من أكثر الدولة الواعدة لدين التقنيات الذي يبشر به السيليكون فالي، ولكن دين التقنيات بإيمانه بخلود الإنسان سيأخذ على الأقل عقدًا أو اثنين حتى يؤسس لنفسه وجودًا مهيمناً، وحتى ذلك الحين، لا تجد الصين بديلًً عن الليبرالية.

وماذا عن الإسلام المتطرف أو المسيحيين المتعصبين؟ أعلن نيتشة موت الإله وظلّ الإله حاضرًا في العالم حتى اليوم، لكنها مسألة وقت: لقد مات الإله ولكن سيحتاج وقتاً ليخرج من جسده. لا يمكن للإسلام المتطرف أن يقترب من الليبرالية، فأصحابه متطرفون ولا يمُكن للعلم والتكنولوجيا أن يندمجا مع الدين.

قد ينُادي متعصبو المسلمين بشعارهم الشهير «الإسلام هو الحل»، ولك ن أي دين يفقد اتصاله بالتكنولوجيا والواقع سيفقد حتمًا قدرته على إجابة أسئلة العصر.

أي تغيرّ سيطرأ على سوق العمل عندما يتفوق الذكاء الاصطناعي على إدراك الإنسان العادي؟ ما العواقب السياسية والاقتصادية لطبقة الناس «عديمي الفائدة»؟ كيف ستصير العلاقات الإنسانية عندما تتمكن النانوتكنولوجي من إرجاع من في الثمانين إلى الخمسين؟ لا تستطيع إجابة هذه الأسئلة بالرجوع إلى القرآن أو الشريعة!

لماذا تميز ماركس أو لينين على غيرهم من من يحملون اسم الدين؟ لأنها اهتموا بواقع التقنية والاقتصاد. في القرن الواحد والشعرين سيسير قطار التقدم، ويبدو أنه سيكون القطار الأخير الذي يغادر محطة الهوموسابيانس، من يفُوّت القطار فلن ينالَ فرصة أخرى، ولتحجز مقعدك عليك أن تفهم التكنولوجيا والبيوتكنولوجي وخوارزميات الحاسوب، أخفقت الاشتراكية في تحديث نفسها مع التقنية الجديدة بينما استطاعت الليبرالية التكيف مع عصر المعلومات، ولا يزال الإسلام المتطرف خلف أسوار الثورة الصناعية!

بالطبع لا يعني هذا أن الليبرالية ستظلُّ في موقع الهيمنة، ولكنها تدفع بالإنسانية نحو الوصول إلى الخلود، عندما تصبح الهندسة الجينية والذكاء الاصطناعي في ريعان شبابها، الليبرالية والديمقراطية والسوق الحرة وكل هذه الأفكار ستكون قد عفا عليها الزمان مثلها مثل سكاكين حجر الصوان، والأشرطة، والإسلام والاشتراكية .

بدأ هذا الكتاب مُجادلًا بأن الإنسان يبحث عن الخلود والنعيم المطلق ،ويبدو أن تحقّق هذه الآمال ليس بعيد المدى ،وإن كانت مثلًا تقليدية لليبرالية الإنسانويةّ.

[1] كل ما كُتب في الأسفل يعُبّر عن وجهة نظر مؤلف الكتاب وما كُتب هُنا تلخيص لما قاله.

تمهيد[1]

في عالم اليوم )عام ٢٠١٦( تسيطر المنظومة الليبرالية على العالم مُشتملةً على أفكار رئيسية كالفردية وحقوق الإنسان والديمقراطية والسوق الحر/اقتصاد السوق.

لكن القرن الواحد والعشرين   يهُز الآن البنى الأساسية للنظام الليبرالي. العلم، بشكل طبيعي، لا بمسائل الق  يم على الإطلاق. لذلك لا يمكن للعلم أن يجزم ما إن كان الليبرالي مصيب بتقييمه للحرية أكثر من المساواة أو بإعطاء قيمة أكبر للأفراد من المجموعة أو المجتمع. ولكن كما هو حال كل ديانة فإن الليبرالية ليست مبنية فقط على أحكام أخلاقية نظرية وإنما أيضاً على أطروحات واقعية، وهذه الأطروحات لا تتماسك أمام البحث العلمي المفصل.

تعاملت الأديان مع حرية الإرادة باهتمام كبير كجزء من مركز هذه الأديان، وعلى العكس فعل العلم الحديث ،فصارت حرية الإرادة كأنها فيلٌ في مختبر يعمل فيه علماء لا يهتمون إلا بالمجهريات.

الفهم العلمي الموجود يخُبرنا أن العشوائية والحتمية قد قسمتا الكعكة بينهما بشكل كامل، دون أن تبقيا فتاتاً للـ«حرية»، وأدركنا أن تلك الكلمة المقد سة ما هي إلا مصطلح أجوف خالٍ من أي معنى، كمصطلح الروح. فكرة الحرية تعيش فقط في القصص الخيالية التي اخترعها الإنسان.

جاءت نظرية التطور لتدق المسمار الأخير في نعش «الحرية»، لا يمُكن أن نهضم فكرة الإرادة الحرة مثلما لا يمكن للتطور أن يتوقف مع الأرواح الخالدة .فإنه على سبيل الجدال: إن كان الإنسان حر اً.. فكيف إذاً شك له الإنتقاء الطبيعي؟ بحسب النظرية، كل الخيارات التي يقوم بها الحيوانات، والمتعلقة بالسكن أو الغذاء أو التزاوج ما هي إلا خيارات تعكس الشيفرة الجينية الموجودة في هذه الحيوانات، إنها الجينات ولا شيء آخر ،وهذه ليست افتراضات أو تصورات فلسفية، نستطيع اليوم أن نقوم بمسوحات عصبية للمخ تمكننا من توقع القرارات والرغبات للأشخاص حتى قبل إدراكهم هم لها.

وعلى الرغم من وصولنا لهذه النقطة، إلا أن الجدل ما زال مستمرًا حول الإرادة الحرة، وسبب ذلك استمرار العلماء باستخدام مفاهيم لاهوتية قديمة، وخاضوا معارك جدلية حول العلاقة بين الروح والإرادة، لاهوتيين مسلمين ومسيحيين ويهود .

افترضوا بأن لكل إنسان مركزً ا داخل ياً يسمى الروح – والذي هو النفس الحقيقية. واعتبروا أن النفس تملك العديد من الرغبات كما يملك الإنسان الثياب والبيوت والأمور المادية الاخرى، وبالتالي فإن مصير الإنسان مقصور على هذه الخيارات. إن اختار رغبات حميدة فله الجنة، وإن اختار العكس فمصيره النار.

فلنسأل سؤالًا مهمًّا: كيف نختار رغباتنا؟

 Who Are I?من نحن/أنا؟

لم  يضُعف العلم الحديث الايمان الليبرالي بالإرادة الحرة فحسب، وإنما أيضًا بالفردية. فكرة أن الفرد نفسه هو جزء واحد لا يتجزأ هي فكرة أجهزت عليها تمامًا تجارب علمية في علم الأعصاب.

فمثلاً الدماغ الإنساني مكون من شطرين، أيمن وأيسر، متصلان معاً من خلال رابط عصبي ثخين .كل شطر يتحكم بالنصف الآخر من الجسم، وفي النصفين المذكورين يوجد أيضاً فروقات عاطفية وذهنية أيضًا ولكنها ليست بالوضوح المكتمل بعد.

معظم النشاطات الذهنية تحتاج نصفي الدماغ ولكن بدرجات مختلفة، فأحياناً يعملان معًا وأحياناً بشكل متعاكس -كما تثُبت بعض التجارب-، ومن التجارب المثيرة للاهتمام تجارب دانيال كاهيمان الذي أدرك نظرية )القمة-النهاية( التي تفصل ما بين النفس الساردة والنفس الحاسة. في هاتين “النفسين” التجارب والأحاسيس تترجم بشكلين مختلفين ،وهذا ما ثبت في عد ة تجارب، وأحد أكثرها وضوحًا تجارب الماء الساخن الذي دل بشكل واضح على الفرق بين النفس الساردة والحاسة.

التجربة كالتالي: يضع شخص اصبعه في ماء ساخن عد ة مرات، وما حصل أنه في آخر مرة يضع فيها المُج رب أصبعه في الماء تسجلها النفس الحاسة/المج ر بة بأنها الأقل ألمً ا حتى لو كانت مدتها أطول وألهما التراكمي الحقيقي أكبر. وهذا يدل بشكل واضح على الاستقلالية بين النفسين أحيانا والتباين بينهم .

The Meaning of Life | معنى الحياة

تتعرض النفس المجربة لتجارب في الحياة غير مفهومة لهذه النفس، فهي تحاول فهم ما يطرأ عليها وفقاً للمعنى والظروف المُحيطة الحالية، ما معنى هذا؟ لنأخذ مثالًا: تحدثنا سابقاً عن اختراع الناس للأساطير والقصص الخيالية، يؤمنُ الناس بهذه القصص ويتمسكون بها بشدة، ويضُحون من أجلها مهما كانت النتيجة، ويحُاولون إضفاء المعنى عليها، وأسهل تطبيق لهذا الكلام هو ظاهرة «لم يكن موت أبنائنا هباءً »، وما التفسير المنطقي وراء هذه الظاهرة؟ سياسي ون دخلوا حرباً أو معركة لتحقيق هدف معين، وما أن تبدأ التضحيات حتى يصُبح الالتزام بهذه المعركة إلزامياً أكثر فأكثر، وتزداد التضحيات وإن كانت بلا جدوى!

وتدُفع الخسارات والتضحيات بعيداً عن الهدف الرئيس الذي بدأت بسببه القصة. دوامة لا فائدة منها.

هكذا تعمل النفس الساردة، ترفضُ الاعتراف بالخسارة وأن التضحيات لم تكن مجدية لا يعترف الساسة ولا الشعب من ورائهم أيضًا. هذا السلوك والتفكير الإنساني، هو نفسه الذي يمارسه الإنسان في مسائل أصغر، كالزواج، وعلى مستوى الاستثمار والدراسة أو العمل.

بناء على ماسبق فإننا ندرك أن النفس أيضًا قصة خيالية كما الآلهة والأقوام والمال .

لدى كل قصة منظومة معقدة تبُقي على عدة خيارات ضمنها لنفهم أنفسنا ممزوجة ً بالثقافة التي تعرضنا لها )سواء ذلك في أفلام أو روايات أو أمور أخرى(. من خلال كل المُدخلات ننسج قصة متناسقة ضمن خيالنا، عن كل شيء، تفُسر من نحن، من أين أتينا وإلى أين نذهب. هذه القصة الوجودية المتكاملة تحدد في إطارها ما نحُب وما نكره، وماذا أفعل مع نفسي. هذه القصة تدفعنا أحياناً إلى التضحية بأنفسنا إن اقتضى النص القصة!

للقصة أنواع وأشكال مختلفة، بعض الناس يعيشون التراجيديا وآخرين يعيشون تجارب غير منتهية من الدوغمائية الدينية. الناس يتعاملون مع الحياة بطرق وأشكال وخيالات مختلفة، ولكن في نهاية المطاف، إنها مجرد قصص!

ما معنى الحياة إذاً؟ تجزم الليبرالية أن المعنى يصدر من داخل الإنسان، لا جاهزًا من الخارج، مصدرُ المعنى في الإرادة الحرة للإنسان. لكن العلوم الحيوية تنقض هذا الطرح، لأن حرية الإرادة، بالنسبة لها، ما هي إلا تفاعلات لخوارزميات حيوية-كيمائية ضمن أجسامنا. النفس الساردة تحاول أن تفرض النظام على الفوضى التي يعيشها الإنسان من خلال خلق قصص غير منتهية، حيث لكل تجربة مكانها ومن خلالها نحصل المعنى المطلوب.

البشر هم أسياد التناقض الفكري. نسمح لأنفسنا أن نؤمن بشيء معين في المختبر وفي نفس الوقت نؤمن بشيء مُناقض له تمامًا في البرلمان ودور القضاء. لم تختفي المسيحية بظهور كتاب داروين) أصل الأنواع(، وكذلك لن تختفي الليبرالية عن الوجود فقط لأن العلماء استنتجوا عدم وجود شيء اسمه «إرادة حرة».

العديد من المبدعين والمساهمين بشكل كبير في البحث العلمي كريتشارد دوكنز وستيف بينكر وآخرون يرفضون الاستغناء عن الليبرالية، فبعد جهد عظيم وكتابة مئات الصفحات التي تف ن د النفس وحرية الإرادة يقومون بحركات رشيقة وبهلوانية فكرية عجيبة للعودة إلى القرن الثامن عشر، وكأن كل الاكتشافات العظيمة في العلوم الحيوية التطورية وعلم الأعصاب لا أثر لها بأي شكل على الأفكار السياسية والأخلاقية لروسو ولوك وجيفرسون .

وكما نعلم، الاكتشافات العملية الجديدة تتحول إلى تقنيات ونشاطات نستعملها في حياتنا اليومية، بل قد تتح ولإلى نماذج اقتصادية جديدة، وكلما دارت هذه العجلة صار من الصعب علينا متابعة حياتنا بهذه الازدواجية المتنقضة، ولذا سنحتاج نحن )أو ذرياتنا( إلى باقة جديدة من المفاهيم الدينية والمؤسسات السياسية.

ما يهدد الليبرالية في بداية الألفية الثالثة هو التقنية بشكل أساسي وليس الفكرة الفلسفية القائمة على أنه لا وجود لأفراد أحرار .لكننا الآن على حافة سيل جارف من التقنيات والأجهزة الذكية والمفيدة جد اً بالإضافة إلى النماذج الجديدة التي لن تترك المجال للإرادة الحرة للبشر. فيصبح السؤال، هل تستطيع الديمقراطية والسوق الحر وحقوق الإنسان اجتياز هذا السيل والبقاء بسلام بعده؟

 التأثيرات العملية لهذه الاكتشافات العلمية على الليبرالية سيكون مرتكز بشكل رئيسي على ثلاثة تطورات عملية والتي ستنتج عن التالي:

  • سيفقد الإنسان قيمته الحصري ة في الاقتصاد والجيش، وسبب ذلك التقنيات الحديثة، وهذا سيمنع النظام السياسي والاقتصادي من إعطاء الإنسان هالة الأهمية وأنه مُك ون فع ال.
  • الأنظمة التي سنعيش فيها ستعُطي الإنسان قيمة مميزة ولكن للإنسان كجماعة وليس كفرد.
  • سيجد النظام قيمة مهمة في أشخاص مميزين، ولكن هذا سيخلق طبقة جديدة من النخبة الذي سيصبحون من البشر الخارقين.

لتفصيل هذه الأمور لنبحث بشكل أوسع:

لربما من الطبيعي الاعتقاد بأن الليبرالية سيتم تحديها على المستوى الفلسفي من قبل التقانة، ولكن من الناحية العملية من الصعب أن نرى كيف بالإمكان لأسس الليبرالية كالديمقراطية أو السوق الحر أو لأي مؤسسات ليبرالية أخرى من أن تنجو أمام إعصار كهذا. لم يكن ازدهار الليبرالية مرجعه لق وة طرحها الفلسفي وقبول الناس له، وإنما المنطق العسكري والسياسي الذي م كن من خلق قيمة للإنسان في المجتمع، وقد انتشرت الليبرالية فعلياً بعد ذلك.

مثال: إدراك أهمية تفعيل دور المرأة في زمن الحرب وس ب ب ذلك الاتجاه إعطاء النساء ح ق التصويت السياسي في زمن السلم لاحقاً.

القوة العسكرية والإنتاجية الإقتصادية والديمقراطية كانت لهم أدوار متكاملة ومترابطة إلى حد كبير وكان ذلك منطقياً.

ولكن الأمور اختلفت اليوم، فالجيوش صارت تعتمد إلى حد كبير على التقنيات الحديثة والمعقدة، أكثر من اعتمادها على الأفراد من الناحية العددية. حتى الحروب بدأت تتغير لتنتقل من القتال المباشر إلى الهجمات الإلكترونية وتعطيل البنى التحتية) كتعطيل شبكة الاتصالات أو التلاعب بالمفاعلات النووية( لدول أخرى مما قد يش ل البلد.

أما اقتصادياً، فكثير من الوظائف المرتبطة بالإنتاج والنمو غزتها التقنية بالذكاء الاصطناعي، حتى في وظائف لم يتخ يل الإنسان أن آلة يمُكن أن تحل مكانه فيها.

التعرف على الوجوه، أو الطب والمحاماة، ومجالات أخرى كثيرة، غزاها الذكاء الاصطناعي بقدرات تفوق قدرات الإنسان فيها، والأهم من ذلك: هامش الخطأ صغيرٌ جداً في عمل الآلات. وذلك منطقياً، يؤكد بأن الخوارزميات الطبيعية) العضوية ( أثبت أنها أقل فاعلية من الخوارزميات الاصطناعية التي ابتكرها الإنسان.

في الماضي – كان العديد من الفلاسفة يسألون السؤال) أيهما قيم أكثر؟ الذكاء أو الوعي/الضمير[1]( ببراءة لمجرد السؤال لا لسبب وجيه، إذ لم يتعارضا في الإنسان القديم من قبل. ولكن في القرن الواحد والعشرين، ومع تطور الذكاء الاصطناعي والتقانة أصبح هذا السؤال أكثر جدي ةً وتهديداً، وقد أجابت عنه المؤسسة العسكرية والشركات الاقتصادية بالفعل، وكان الجواب واضحاً: الذكاء بالطبع ضروري، أما الوعي؟ فلا.

الطبقة عديمة الفائدة The Useless Class

لا يطُرح موضوع دخول الآلة لسوق العمل إلا ويطُرح السؤال لتالي: ماذا سنفعل بكل هؤلاء الناس الذين لا فائدة منهم؟ ماذا سنفعل في حياتنا عندما تعمل الآلات عن ا وأفضل منا؟

خلال التاريخ، كان سوق العمل مُسيطرًا عليه من قبل ثلاثة قطاعات: الزراعة والصناعة والخدمات .

حتى مطلع القرن التاسع عشر، كان عمل معظم الناس في الزراعة وأقل منهم في الصناعة والخدمات، وفي الثورة الصناعية انتقل الإنسان من الحقل إلى المصنع أو للخدمات المُساندة لعمل المصنع، أما في العقود الأخيرة نشهد تحولًا آخر: قطاع الصناعة يتقلص نحو الاختفاء لحساب قطاع الخدمات المتضخم ،ففي ٢٠١٠ في الولايات المتحدة الأمريكية يعمل ٢٪ فقط من الناس في الزراعة ،٢٠٪ في الصناعة و٧٨٪ في الخدمات )كمدرسين، وممرضات، مصممين، الخ(. سؤالنا اليوم، عندما يصبح للذكاء الاصطناعي قدرة الاستحواذ على الوظائف الخدمية بشكل أوسع، فماذا سيفعل الناس؟

يملك الإنسان نوعين من القدرات: جسدي ة وذهنية )عقلية(. استبُدلت القدرة الجسدية بالآلة، واليوم تسُتبدل القدرة الذهني ة بالذكاء الاصطناعي.

اعتقاد الإنسسان بأنه قادر دومًا على ابتكار قدرات وأشياء جديدة لا يمكن للخوارزميات الاصطناعية ابتكاره ،مج رد وهم.

في القرن التاسع عشر خلقت الثورة الصناعية طبقة جديدة من البروليتاريا، وانتشرت الاشتراكية كالنار في الهشيم، لأنها العقيدة الوحيدة التي أجابت على أسئلة وحاجات وتخوفات الحشود، أما الليبرالية هزمت الاشتراكية من خلال تبني أجزاء من البرنامج الاشتراكي ،في القرن الواحد والعشرين، من الممكن أن نشهد طبقة جديدة ضخمة من العاطلين عن العمل، هذه الطبقة لن تكون عاطلة عن العمل فحسب، بل ستكون غير قابلة للعمل!

ماذا سيفعلون؟ التقنيات المُحتملة مستقبلًا ستسُاعدنا على إطعام هذه الحشود دون حاجة لجهدهم، ولكن ما الذي سيجعلهم سعداء وراضين؟ يحتاج الإنسان أن يعمل، وإلا سيجُن، ومن الأجوبة: المخدرات أو ألعاب الحاسوب، أو أي من العوامل الخارجة عن الواقع[2]. هذه التطورات سيكون لها تأثير كبير على الايمان الليبرالي بقدسية الحياة الإنسانية والتجربة الإنسانية. فما هو المقدس بهؤلاء الناس الذين لا فائدة منهم؟ بعض الخبراء يقدرون بأننا ننحط، لأن اللحظة التي سيفوق فيها الذكاء الصنعي الذكاء البشري، فمن الممكن أن نكون قد وصلنا إلى نهاية النوع البشري لأنه سيتم القضاء عليه .

احتمالية السابعة وثمانين The 87% Probability

الخطر الثاني المُحدق بالليبرالية هو أن النظام لن يحتاج إلى البشر كأفراد مستقبلًا.

نعم نعم سيتابع الإنسان خلق الموسيقى وتدريس الفيزياء، لكن النظام سيفهم الإنسان أكثر من نفسه، وسيقوم باتخاذ معظم القرارات بالنيابة عن الناس، ما يعني أنه يحرمهم من سلطتهم على أنفسهم واستقلاليتهم وحريتهم.

الايمان الليبرالي في الفردية مبني على ثلاثة افتراضات رئيسية طُرِ حت سابقاً:

أولاً: أنا فرد ذو مركز وذات أصيلة ومميزة أستطيع أن أكتشفها بنفسي.

ثانياً: ذاتي المميزة والأصيلة حرة تمام اً.

ثالثاً: يتبع من الافتراضين الأولين أنني أعلم عن نفسي امور لا يعلمها أحد سواي. وهذه القدرة بحسب العقلية الليبرالية تعطي الفرد الحق بالتصويت السياسي وحرية الزبون والمُق ي م للجمال .

أما العلوم الطبيعية فتتحدى هذه الافتراضات الليبرالية الثلاث بثلاث حقائق أخرى:

أولاً: التفاعلات الحيوية هي خوارزميات والبشر ليسوا أفرادا ذوي وحدة متكاملة، بل الإنسان مجموعة خوارزميات –خوارزميات لا أكثر- متكاملة ومتناقضة أحياناً مُ شكلة من نفس واحدة  .

ثانياً: الخوارزميات المُ ش كِ لة للإنسان ليست حرة. بل هي مشك ل ة من خلال جينات وضغوطات بيئية ومُتأث رة بالظروف، والقرار يؤخذ فيها إما عشوائياً أو إجبارياً ظرفياً.

ثالثاً: تم إيجاد خوارزميات خارجية )خوارزميات اصطناعية( يمكن أن تراقب كافة أنظمة الفرد وأن تعرفة أكثر عنه أكثر مما يعرف عن نفسه: – من هو حقيقةً – كيف يشعر – وماذا يريد.

تقنيات القرن الحادي والعشرين يمكن أن تفتح الباب للخوارزميات الاصطناعية لتقرصن الإنسان وتعرفه من الداخل، وما أن يحصل ذلك حتى ينهار الإيمان بالفردي ة، وستنتقل السلطة من الفرد إلى شبكات

خوارزمياته والخوارزميات الاصطناعية، وسيرى الإنسان نفسه على أنه تفاعلات حيوية-كيميائية فحسب ،ترُاقبها خوارزميات الكترونية.

لكي يحصل ذلك يجب أن تكون الخوارزمية الالكترونية أعْ رف بي ولا تخطئ أبداً –أو تخُطئ أق ل مني-، ومثالًا على ذلك: بعض الشركات إذا تحصلت على كافة معلومات التاريخ الطبي والتكويد الجيني )الوراثي( والوضع الطبي الحالي، فستستطيع التنبؤ بالأمراض مستقبلًا وسترشد نمط الحياة الأفضل لصاحب المعلومات. )انظر شركة7(.

حسب دراسة قام بها موقع فيس بوك لمستخدميه – فإن خورازمية الفيسبوك هي أفضل وأدق تنبؤً ا بشخصية المُ ستخدم أكث ر من أصدقائه أو أهله أو حتى الزوج. الدراسة أقيمت على ٨٦٠٠٠ متطوع قاموا بتعبئة استبيان من ١٠٠ سؤال عن الشخصية .

خوارزمية الموقع أمكنها توقع شخصية الفرد من و ح سب عدد ضغطات زر الإعجاب التي قام بها على حسابه. كلما ازداد عدد الإعجابات ازدادت الدقة بالطبع. وكانت النتيجة: 10 إجابات كافية لمعرفته أكثر مما يعرفه زملاء العمل ،70 لتعرفه أكثر من أصدقائه، و150 لتعرفه أكثر من أهله، و300 لتعرفه أكثر من زوجه الذي يعيش معه يومًا بيوم.

كاتب التجربة في فيسبوك عل ق قائلاً:«من الممكن للناس أن يستغنوا عن أحكامهم النفسية وأن يعتمدوا بشكل كامل على الكمبيوتر/الحاسب عند القيام بقرارات حياتية مهمة كاختيار زوج ،عمل، أو مكان إقامة ،أو قرار آخر. من الممكن لهذه القرارات المعتمدة على البيانات أن تح س ن من حياة البشر». إنه يخُبرنا أن الخوارزمية أفضل من ا في التفكير لأنفسنا.

لكل شيء جانب سيء، تخ يل أننا في المرحلة الأخيرة من انتخابات رئاسية وقد تبق ت ولاية واحدة تحُدد نتيجة الانتخابات، ولكن، فيسبوك بمعرفته الكاملة بمخاوف الناس وميولاتهم السياسية في هذه الولاية تجعل النتيجة في يده جاهزة، معلومات لا تقد ر بثمن، يحصل عليها فيسبوك مجاناً!

  From Oracle to Sovereign من المستبصر إلى المسيطر

                                                   

7 23andMe

إن العديد من الخوارزميات الموجودة حالياً والمتطورة كالتي لدى فيسبوك وغوغل، عندما تصبح مستبصرة

بشكل كامل فإنها على الأغلب ستستطيع تجاوز هذه المرحلة محققةً تح ك مً ا أعظم فيما يخص قدراتها، وستتحول من مجرد وسيط ينصح ويتنبأ إلى مسيطر ذو استقلالية كاملة .

لنتعرف على تطبيق اسمه «ويز»، يعمل التطبيق على جمع البيانات من سيارات المشتركين ويدمجها بالخرائط المُنبثة من الأقمار الصناعية، ثم يخُبرك بالطرق المزدحمة ويتقرح الطريق الأمثل لتصل إلى المنزل بأق ل وقت ممكن، حتى الآن الأمور لطيفة. لكن لو كان المشتركون 100 ألف، فلن يقترح البرنامج نفس الطرق المختصرة لهم جميعاً، لذلك فإنه سيوجه بعضهم من خلال طريق معين وآخرين من خلال طريق آخر. وهذا بالطبع سيحقق الهدف: الوصول سريعاً، ولكن الإنسان لن يكون مسيطرًا على هذه العملية ككل، على عكس الخوارزمية التي صارت توُ جه الإنسان.

وقس بناءً على هذا الاحتمالات الموجودة مستقبلاً لمختلف الخوارزميات الذكية.

  Upgrading Inequality تحديث عدم المساواة

الخطر الثالث المحدق بالليبرالية هو أن بعض الناس سيكونون غير قابلين للتغير ولا يمكن الاستغناء عنهم ،ولكنهم سيكونون أقلية نخبوية من البشر المتطورين أو الخارقين. هؤلاء سيكون لديهم قدرات غير مسموع بها حتى الآن وسيكون لديهم قدرات ابتكارية ضخمة ستمكنهم من أخذ معظم القرارات المحورية في العالم .

سيكونون قادرين على القيام بخدمات أساسية للمنظومة القائمة والنظام نفسه لن يستطيع أن يفهمهم أو يديرهم .

ولكن بالطبع، لن يطُور الجميع ومن ثم ستخُلق طبقة عليا، تحكم الآخرين بالخوارزميات الحاسوبية.

تقسيم البشر إلى طبقات بيولوجية يد م ر أسس الأيديولوجيا الليبرالية، حيث أنها تستطيع العيش بشكل طبيعي مع طبقية اجتماعية-اقتصادية فقط. وهذا لأنها بالأساس تعير اهتمامً ا وقيمة أكبر للحرية على المساواة.

 كيف سينجو الإيمان الليبرالي عند ظهور البشر الخارقين مع قدرات جسدية وفكرية وعاطفية غير اعتيادية؟ إن مشروع الإنسان في القرن العشرين –من تخطي المجاعة والحرب والطاعون– كان هدفه بالأساس تحقيق نوع من المساواة العالمية للبشر من خلال انتشار الصحة والسلام للجميع دون استثناء. ولكن مشروع القرن الواحد والعشرين –تحقيق الخلود والنعيم والألوهية– أيضاً يسعى لتحقيقها للعالم أجمع. ولكن لأن هذا المشروع يسعى لتخطي الاعتيادي بدل تحقيقه –فإن ذلك سيخلق طبقة جديدة من البشر الخارقين المتجاوزين للأصول الليبرالية ويتعاملون مع البشر العاديين بطريقة لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي عُومِل بها الأفارقة من الأوروبيين في القرن التاسع عشر.

إن كان التطور التقني سيق سم الإنسانية إلى مجموعتين: مُفيدة خارقة وأخرى غير قابلة للعمل وعديمة الفائدة ،أو إن انتقلت السلطة من البشر إلى الخوارزميات الذكي ة، فلا مصير لليبرالية سوى الانهيار.

إذاً، بعد سقوط الليبرالية، ما هي الأديان أو الأيديولوجيات التي ستملء الفراغ وتدفع باتجاه تطور إلى الآلهة؟

[1] Intelligence or Consciousness

[2] Virtual Reality – As an example

سيولد دين جديد من معامل الأبحاث، وفي العقود القادمة قد تحتل الأديان التكنولوجية[1]، وفي مركزها التكنولوجيا الحديثة، العالم بوعودٍ بالخلاص عن طريق الخوازميات والجينات.

يمكن تقسيم هذه الأديان التكنولوجية إلي نوعين أساسي ن: التكنو-إنسانوية ودين البيانات[2].

  • يجادل دين البيانات بأن بني الإنسان قد أتموا مهمتهم الكونية وعليهم الآن أن يمرروا الشعلة إلى نوع جديد تمامًا من الكيانات. في الفصل القادم سنناقش أحلام وكوابيس دين البيانات .
  • في هذا الفصل فسنناقش العقيدة الأكثر تحفظًا للتكنو-إنسانوية والتي مازالت ترى البشر فى ذروة

)سلم( ال خلق وهي معقلٌ للعديد من القيم الإنسانوية التقليدية.

تعتقد التكنو-إنسانوية بأن الهوموسابيان صنعوا تاريخهم، ولكنهم لن يكنوا قادرين على ذلك في المستقبل ،ولذلك استنتجت بأننا يجب أن نستخدم التكنولوجيا لنخلق الهوموديوس، وهو نموذج الإنسان الأكثر تفوقاً. سيحتفظ الهوموديوس ببعض الخصائص البشرية الأساسية، ولكنه سيتمتع بقدرات فيزيائية وعقلية متطورة/مُحدثة ستمكنه من المحافظة على نفسه/توازنه في مواجهة الخوارزميات اللاوعية الأكثر تطورًا.     التكنو-إنسانوية تعتقد أنه كما غيرت ثورة الإدراك الأولى عقل الإنسان، قبل سبعين ألف سنة، كذلك فإن بعض التغييرات الإضافية للجينيوم الإنساني بالإضافة إلى إعادة كتابة عقولنا سوف تكفي لبدء ثورة إدارك ثانية. التجديد العقلي الذي تبع ثورة الإدراك الأولى مكن الهوموسابين من ولوج عالم المخيلة الذاتية المشتركة[3] و حولهم لحكام الكوكب؛ في حين ستمكن ثورة الإدراك الثانية الهوموديوس من دخول عوالم جديدة غير متخيلة وستجعل منهم ملوك المجرة لا الكوكب فحسب. تأ مل التكنو-إنسانوية من تحقيق حلم الإنسان الخارق بطريقة سلمية بمساعدة هندسة الجينات وآلات التدخل الحاسوبي المباشر في عقل الإنسان.

 Gap the Mind  فجوة العقل

تسعى التكنو-إنسانوية إلى تحديث وتطوير العقل البشري والولوج بنا إلى تجارب مجهولة وحالات من اللاوعي غير المألوفة. إلا أننا، وكما ذكرنا سابقاً في الفصل الثالث، لا نعرف الكثير عن العقل وكيفية عمله. وبالتالي سنتعلم هندسة الحالات الذهنية/ العقلية[4] من خلال التجربة والتعلم من الأخطاء، ولكننا

نادرًا ما ندرك العواقب الكلي ة التي ستنتج عن هذا التلاعب. ومما يجعل الأمر أكثر سوءًا هو أننا لا نعرف بعد ما نريد هندسته وزرعه في العقل حيث أننا مازلنا نجهل الطيف الكامل للحالات الذهنية. هذا الطيف الذهني )قياسًا على مصطلح طيف الضوء( أكبر بكثير مما قد يتصوره الإنسان العادي وما نعرفه قد يقارب حجم جزيرة صغيرة في محيط غير محدود من الحالات الذهنية الغريبة علينا. وحتى الدراسات النفسية التي جرت لدراسة هذه الأطياف والحالات الذهنية، جُلهُّا أجريت على عينة تنتمي للمجتمعات الغربية المتعلمة الصناعية الغنية الديموقراطية12. إذا افترضنا أنهم اكتشفوا طيف هذه الفئة بقدر كبير، إلا أنها لا تمثل تعددية البشر الهائلة على مر العصور وتعددية اعتقادتهم اللاواعية. فكل حقيقة وواقع اجتماعي-اقتصادي وكل روتين يومي ينمي أشكالًا مختلفةً من اللاوعي. كانت الثقافات القديمة تؤمن أنه بالتأمل يتمدد العقل حتى يصل لعالم لا حدود له أو أن يتلاشى في الفراغ الكوني؛ في حين تقدس الثفاقة الغربية الحديثة التجارب الإنسانية العادية وتفتقد تلك الفئة التي تطمح لتجربة حالات ذهنية استثنائية. ومع ذلك، إذا أخذنا كل هذا في الحسبان عند دراسة الطيف الذهني، فأنه لن يقارب الحقيقة إلا قليلًا. إلا أنه في المستقبل قد

تتمكن المخدرات القوية وهندسة الجينات والخوذات الإليكترونية والتدخل الحاسوبي المباشر في عقل الإنسان من فتح ممرات لاستكشاف تلك الأماكن المجهولة من العقل و سبر أغواره.

أشم رائحة الخوف  I Smell Fear

نواجه تحدياً مختلفاً تمامًا في مطلع الألفية الثالثة وهو أننا نسعى لتحديث عقولنا ،حتى وإن كنا لا نملك خريطة واضحة لما قد نكتشفه عن العقل علاوة على  جهلنا بالوجهة التي نبتغيها. هذا في ظل فتح الإنسانوية الطريق للتكنو-إنسانوية وتركيز الطب المتزايد على تحديث الأصحاء من البشر عوضًا عن معالجة المرضى. فصار علم النفس الإيجابي هو المتصدر حالياً مدعياً بأن علم النفس يجب أن يدرس ليس فقط الأمراض النفسية والعقلية بل وكذلك نقاط القوى العقلية .

تحت هذه الظروف، قد نتقدم بخطوات حثيثة بدون خطة ماعدا التركيز على تحديث قدراتنا العقلية التي تلائم احتياجات النظام السياسي والاقتصادي الحالي؛ بينما نتجاهل بل ونستحقر ماعدا ذلك. وهذه ليست ظاهرة جديدة. فلطالما شكلت النظم عقولنا حسب ما تحتاجه. فمثلًا الإنسانية في عصر الحداثة أصُيبت

بهوس تفويت أي جديد، فنعم نحن نخظى بحرية الاختيار أكثر من أي وقت مضى، ولكننا فقدنا قدرتنا على تحديد ما يجب فعلًا أن نوليه اهتمامنا. وكذلك فقدنا قدرتنا على الحلم، فالثقافة الحديثة دائمًا ما اعتبرت الأحلام رسائل لا واعية في العقل الباطن أو قمامة عقلية لا أهمية لها. قياسًا على هذا، فإن التحديثات التي يتطلع إليها الإنسان في المستقبل ستكون محددة وفقاً لاحتياجات النظام السياسي والسوق. فمثلًا “خوذة التركيز”[5] التابعة للجيش الأمريكي هدفها أن تساعد الناس على التركيز على المهام الواضحة وتسريع عملية اتخاذهم للقرارات. إلا إنها سوف تقلل بالتأكيد من قدرتهم على إظهار التعاطف والتسامح مع شكوكهم وصراعتهم الداخلية وتناقضات الحياة والمشاعر الإنسانية.

هذا المزيج ما بين قدرتنا الفعلية على هندسة وتشكيل عقولنا، وبين جهلنا بالطيف العقلي/الذهني، وبين المصالح الضيقة قصيرة المدى للحكومات والجيوش والشركات هو بحد ذاته وصفة ممتازة لكارثة. في الواقع، التكنو-إنسانوية قد ينتهي بها المطاف باستحقار الإنسان والتقليل من شأنه وإنسانيته في سبيل خدمة فاعلية النظام.

  The Nail on Which the Universe Hangs  الركيزة التي قام عليها الكون

جوهر مركز الكون في نظر التكنو-إنسانوية هو إرادة الإنسان، ولذلك كانت محل تقديس واهتمام لديهم، فهيتتوقع أن غرائزنا ورغباتنا هي من تحدد أي المهارات والقدرات العقلية الواجب تطويرها وعليه يتشكل عقلنا في المستقبل. ولكن ماذا لو استطاع التقدم التكنولوجي يومًا أن يعيد تشكيل وهندسة هذه الرغبات بحد ذاتها؟ تحديٍ خطير آخر يواجه التكنو-إنسانوية. في النهاية، التكنولوجيا لا تأبه بدواخل الإنسان الأصيلة ورغباته ،وإنما بالتحكم بها. في اللحظة التي نفهم فيها نظامنا الحيوي )البيوكيميائي( الذي يصُد ر كل هذه الأصوات ،سنتمكن من التحكم في شدتها وعلوها أو انخفاضها وبالتالي تصبح الحياة سهلة للجميع. في نظر علم النفس الحديث معظم هذه الرغبات الأصيلة والأصوات الداخلية هي مجرد اضطراب بيوكميائي وأمراض عصبية ،وبالتالي من الأفضل أن نسكتها تمامًا. وهذا تغ ير تاريخي! إذ أنه وللمرة الأولى في التاريخ ستكون جملة «أصغ لذاتك/فطرتك» غير صالحة أو مقبولة. إذ كيف بإمكاننا أن نعتبر الإرادة الإنسانية هي الجوهر الرئيسي الذي ينبع منه أي معنى )للحياة والسلطات إلخ..( إذا كنا نستطيع تشكيله وتصميمه؟ في هذه الحالة ستكون الحاكمية للتكنولوجيا فيما يخص أهمية أي شعور إنساني أو شيء مادي إلى آخره. وبهذا سنتهي المطاف بالتكنو-إنسانوية بنقض وهدم ما أرادت في بداية الأمر أن تحميه وتطوره وتحدثه: إرادة الإنسان .

وهنا تكون المعضلة إذ أنه لن يكون بمقدورنا أن نتعامل مع التكنولوجيا الحديثة طالما واصلنا الإيمان بأن إرادة الإنسان وتجربته هما المصدر الوحيد للمعنى والسلطة .

ويبقى السؤال: ما هو مصدر المعني والسلطة المحتمل في المستقبل؟ إنها المعلومات. الدين الجديد الذي لن يعبد الإله أو الإنسان، بل سيعبد البيانات.

[4] Mental states.  سنسميها اختصارًا المجتمعات الغربية 12

[5] Attentionhelmet

تجُادل البياناتي أن الكون عبارة عن تدفقات للبيانات وأن قيمة أ ي ظاهرة أو كيان تحُدد بناءً على مشاركتها في) عملية( معالجة البيانات .هذا الاعتقاد في الواقع قد اخترق معظم المؤسسات العلمية. وقد انفجرت الثورة البياناتي في أعقاب موجتين علميتين أساسيتين. الأولى كانت تلك التي لحقت نشر دارون كتابه أصل الأنواع حيث صارت العلوم الحيوية ترى الكائنات الحية على أنها خوارزميات بيوكيماوية .

والثانية كانت فكرة آلان تورنغ والتي علمت علماء الحاسوب كيفية برمجة خوارزميات إليكترونية أكثر تعقيد ا على نطاق واسع. تدمج البياناتي ة الاثنتين معاً، مشيرة إلى أن نفس القوانين الرياضية تسري على الخوارزميات الإلكترونية والبيوكميائية. وبالتالي فهي تمحي الفواصل والحواجز بين الحيوانات والآلة ،وتتوقع أن تحل الخوارزميات الإلكترونية شفرة الخوارزميات البيوكميائية مع الوقت، بل وتتفوق عليها.

ولأن المؤمنين بالبياناتي ة )البياناتيين( يعتقدون أن البشر لا يستطيعون التعامل مع كم هائل من تدفق البيانات، فإنهم لن يستطيعوا أن يرشحوا تلك البيانات إلى معلومات ناهيك عن تحويلها إلى معرفة وحكمة. ولذلك يجب أن تسند عملية معالجة البيانات إلى الخوارزميات الإلكترونية، لقدرتها التي تفوق قدرة الإنسان بكثير .والبياناتي ة أكثر رسو خا في تخصصها الأم: علوم الحاسوب و البيولوجي، وبشكل خاص في البيولوجي بطريقة ستغير بشكل كامل طبيعة الحياة. حيث تجادل بأن الكائنات الحية بما فيهم الإنسان مجرد خوارزميات تتبع طرقاً مختلفة في معالجة البيانات.

أي أن الإنسان في تصورهم هو نظام معالجة بيانات، وقس على ذلك كل المجتمعات، السياسية والاقتصادية والثقافية إلخ. فمثلًا، السوق الرأسمالي الحر والشيوعية ليسوا أيدلوجيات متنافسة، وإنما في جوهرهم، نظم معالجة بيانات متنافسة. فواحد يرى بضرورة مشاركة البيانات والمعلومات بطريقة حرة وبأكبر قدر ممكن وعليها تؤُخذ القرارت بشكل منفرد وحر كذلك؛ والآخر يرى بضرورة أن تحتكر الدولة البيانات وتحليلها وصناعة القرار .

في حالة الشيوعية تتراكم السلطات في يد رجل أو جهاز واحد، الحكومة، فهي التي تقرر أرباحك وتقرر ماذا تحتاج ومن ث م ت مدك باحتياجاتك. على الرغم من أنه حين تؤُخذ كل القرارات بواسطة معالج واحدٍ فقط تكون النتائج كارثية، على عكس حالة تعدد معالجي البيانات. بناءً على ذلك فإن  غلبة الرأسمالية في الحرب الباردة ترجع إلي أن تعدد معالجي البيانات )بمعنى أن يشترك في عملية معالجة البيانات أكبر عدد ممكن(* تعمل بشكل أفضل فاعلية عن مركزية معالجة البيانات، على الأقل في أوقات تسارع التغير التكنولوجي .

النقطة الأساسية هنا أن النظرية تفهم الاقتصاد وحركته على أنه عملية معالجة بياناتٍ في الأساس.

  Where Has All the Power Gone? أين ذهبت كل السُلطة؟

كذلك فإن نسبة متزايدة من الخبراء السياسيين يرون النظم السياسي ة نظُم مُعالجةِ بيانات. ففي حين أن الديكتاتورية تتبني طرقاً مركزيةً في المعالجة، فإن النظم الديموقراطي ة تفضل أن التعدد في عملية المعالجة والمعالجين. وهذا يعني أنه مع تغير الطريقة التي تعالج بها البيانات والظروف المحيطة بها فإن الديموقراطية سوف تنحسر بل وتختفي. وذلك لأنها كطريقة معالجة بيانات ستكون بالية، خصوصًا مع تسارع وتضاخمكمية ودفق البيانات في القرن الحادي والعشرين. فالثورة التكنولوجية الآن قد تستبدل العملية السياسية والناخبين لأنها أعلم منهم بما يريدون ولأنهم لن يستطيعوا مجابهتها. يقُلص الإنترنت اليوم فعلًا من سيادة الدولة ويتجاهل الحدود والخصوصية وهو بذلك يمثل أكبر تحدٍ عالمي لأمن الإنسان.

 معضلة الحكومات الحقيقية هو انغمارها بكم هائل من الببيانات لا يعرفون كيف يستخدمونها ولا حتى يملكون رؤية معتبرة للمستقبل أو مشروعًا حقيقياً لتغيير الإنسان والمجتمع، كذاك الذي حمله هتلر مثلًا.

نظرة السياسيين اليوم قاصرة إلى حد بعيد، وكذلك أهدافهم، وعليه ستكون السياسة في القرن الحادي والعشرين منزوعة الرؤى العظيمة. بيد أنها ستكون حالة كارثية إذا امتزجت التكنولوجيا المتألهة والسياسة قاصرة الرؤية والساسة الجهلة المباهين بجهلهم، لا لشيء إلا لإيمانهم باليد الخفية للسوق –والسياسة-. تمامًا كما كانت النتيجة كارثية حين امتزجت رؤى الساسة المصابين بجنون العظمة مع التكنولوجيا العملاقة.

علاوة على أنه من الخطر الشديد أن نوكل مستقلبلنا لليد الخفية للسوق وآليات السوق بإخفاقاتها ونجاحاتها خصوصًا إذا كنا في خضم مواجهة الذكاء الاصطناعي. إلا أنه وفي نهاية المطاف، الفراغ السياسي نادرًا ما يطول كثيرًا، فلابد من تطور آليات ونظم جديدة تحل محل البائدة. السؤال الأهم هنا هو من سيبني ويتحكم بتلك النظم؟ إذا لم تكن البشرية على قدر التحدي، فربما عليها أن تفسح المجال لغيرها.

  History in a Nutshell )😄 التاريخ باختصار )الزيتونة

من منظور البياناتي ة، يمكننا أن نفهم المسار التاريخي كله على أنه عملية تحسين مستمر من فاعلية نظام معالجة البيانات عن طريق أربع طرق رئيسية:

  • زيادة عدد المعالجين: فمدينة يسكنها عشرة ألاف شخص لديها قدرة تنافسية أعلى من قرية بألف نسمة.
  • زيادة تعددية المعالجين: فمعالجين مختلفين عادة ما يستخدمون طرقاً مختلفة في حساب وتحليل البيانات وبالتالي يزداد الإبداع وديناميكية العمل .
  • زيادة الاتصال بين المعالجين: لن تكون هناك أهمية كبيرة لزيادة أعداد وتعددية المعالجين إذا كان التواصل بينهم محدوداً أو لم يزدد التواصل فيما بينهم. كانت شبكات التجارة على سبيل المثال تربط المدن وعليه يكون مجموع الابتكارات قد فاق عشرة مدن منعزلة.
  • زيادة حرية التنقل خلال )وسائط( الاتصالات القائمة: تكاد تكون جدوى الاتصال ما بين المعالجين منعدمة إذا لم تكن البيانات متدفقة ومُشاركة بحرية.

تأسيس نظام معالجة البيانات في حالة الهوموسابين مر بأربعة مراحل أساسية، في كل منها طغت طريقة ما من الطرق الأربعة السالف ذكرها على حساب الطرق الأخرى .المرحلة الأولى كانت ثورة الإدراك وفيها طغت زيادة أعداد المعالجين وتعدديتهم على حساب اتصالهم .المرحلة الثانية كانت الثورة الزراعية، قبل اختراع الكتابة والمال، حيث زاد عدد المعالجين بشكل كبير وكذا شبكات الاتصال بينهم. ولكن توحيد البشرية كان ضرباً من ضروب الخيال. في المرحلة الثالثة وبفضل اختراع الكتابة والمال تكمن البشر من التجمع تحت كيانات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة كالممالك وبدأوا يحلمون بتكوين شبكة واحدة بإمكانها أن تشمل العالم بأسره. وأخيرًا تحقق الحلم في المرحلة الرابعة، بدايةً من 1492. إلا أنه تحت تلك الشبكة مزجت أطياف البشر مع احتفاظ كل منها بتفرده في الفكر والأدوات والسلوكيات والتي اكتسبها على مر الأزمان. نحن الآن على أعتاب نظام معالجة جديد ومو حد لكل البشرية، وهو )وصل كل شيء بالإنترنت[1]( والذي إن اكتمل بناؤه فسينتهي الهوموسابينس.

 Information Wants to be Free المعلومات تريد أن تكون حرة

مثل الرأسمالية، البيانات ية بدأت كنظرية علمية معتدلة، ولكنها الآن بدأت تتحول إلى دين يحدد الصحيح والخطأ. القيمة المطلقة لهذا الدين الجديد هي تدفق المعلومات، وسيصير نظام معالجة البيانات كما الإله ،يتواجد في كل مكان ويتحكم في كل شيء، في حين سيكون الإنسان مجرد وسيلة في هذا النظام )الذي ساعد في خلقه(. وكأي دين، للبيانات يو وصايا/ تعاليم عملية. الأولى أن يسعى البيانات ي إلى مضاعفة كمية وسرعة تدفق البيانات عن إنتاج واستهلاك المزيد والمزيد من المعلومات. والوصية الثانية هى وصل كل شيء بالإنترنت. ونقصد بكل شيء كل شيء وليس فقط الإنسان. أما الخطيئة الكبري فهي أن يمنع أحدهم سير العملية وتدفق البيانات. وهذا نابع من إيمانها المطلق بأهمية حرية المعلومات وأنها أساس كل خير وعليها يعتمد تحقيق أي خير، كالنمو الاقتصادي وتقليل التلوث والاستهلاك الغير رشيد إلخ. ليس هذا وحسب، بل إنها تعتقد أن المعلومات لا تنتمي لأحد حتى صاحبها. وبهذا تكون البياناتي ة أول حركة من بعد الثورة الفرنسيةتأتي بقيمة مطلقة جديدة على البشرية.

 Record, Upload, Share! سجل، ارفع، شارك!

لا يريد الناس الآن إلا أن يكونوا جزءً من )عملية( تدفق البيانات حتى وإن عنى ذلك تخليهم عن خصوصيتهم، حريتهم واستقلاليتهم وفرديتهم. ففي إطار العلم الإنسانوي يحلم كل باحث بأن ينتج بحثاً ويرى اسمه منشورًا عليه. أما الآن فهناك تعاون لا يتوقف في إنتاج المعرفة العملية والفنية، في الآخير من كتب الويكيبديا؟ جميعنا. إلا أن الإنسان في طور تحوله إلى مجرد ترس صغير في هذا النظام العملاق الذي لا يفهمه أحد بشكل كامل. كل ما نفعله هو محاولة معالجة وتحليل البيانات بشكل أكثر كفاءة، متمثلًا في الرد على الإيميلات بشكل أسرع وكتابة المقالات أكثر إلخ .

في نهاية المطاف ما نفعله هو إغراق أنفسنا والأخرين بالمزيد والمزيد من البيانات. ولكن البيانات ية تؤمن باليد الخفية لتدفق البيانات. بمعنى أن هذا النظام سيدير وينظم نفسه علاوة على إلهامه لابتكارات جديدة. في هذا السياق يصبح الاتصال بهذا النظام هو المعنى الرئيسي للوجود، وإذا انقطع الاتصال فهذا يعني الموت .

ويريد الناس أن يندمجوا في هذا العالم لأنهم يشعرون بأنهم جزء من شيء أكبر بكثير من أنفسهم .

دين البيانات ي دعي أن كل كلمة وفعل هو جزء من تدفق البيانات، وأن الخوارزميات تراقبك وتهتم بكل ما تفعله وما تشعر به. ولأن لا أهمية لفعل أو كلمة إذا لم يعرف عنها أحد، فإن البياناتي ة تؤمن بأن التجارب الإنسانية تفتقد المعنى في ذاتها؛  فلا قيمة لها بدون مشاركتها. الخوارزميات سوف تكشف لك أهميتها وتخبرك ماذا تفعل .

كتابة مذكرات شخصية في هذا العصر شيء من العبث اللامنطقي مثلًا. البياناتي ة أيضًا تؤمن بأن تفوق الإنسان ليس لقيمة مترسخة فيه أو لأن تجاربه الشخصية مقدسة، ولكن لأنهم يستطيعون كتابة محتوى وأرشفة تجاربهم ونشرها على الإنترنت. وبالتالي قيمتهم تنبع من تغذيتهم لنظام معالجة البيانات العالمي .

في هذا السياق يمكننا أن نفهم التلهث وراء نشر كل شيء هذه الأيام بدلًا من عيش التجربة ذاتها، فهذه مسألة حياة وموت. الجميع يود أن يثبت أنه مازال يملك قيمة. الأفكار تغي ر العالم بالفعل عندما تغي ر سلوكنا

 .

 Know Yourself اعرف نفسك

البياناتي ة ليست عدائية للبشر وتجاربهم، هي فقط تتنبي موقفاً عملياً للغاية. البشر وتجاربهم مثلت )في وقت مضى( الخوارزميات الأكثر تقدمًا وفاعلية ولهذا من الجيد تقديسهم. ولكن إذا تمكنا من تطوير خوارزمية يمكنها أن تقوم بنفس المهام وأفضل فإنها ستستبدل التحارب الإنسانية، بل ستستبدل البشر أنفسهم ببرامج

حاسوبية تفوقهم تقدمًا. وبالتالي نهتم بتفصيلة هامشية مثل ما إذا كانت تلك الخوازيمات الجديدة تملك وعياً وتجارب ذاتية أم لا؟ وبهذا يكون مسار تاريخ البشرية مر بمركزية الإله الواحد، ثم مركزية الإنسان ثم مركزية البيانات. فبدلاً من تقديس فاعلية نظام معالجة البيانات لأنه يخدم الإنسان، صار مقدسًا لذاته.

الخوارزميات المطورة حالياً في القرن الحادي والعشرين تتمتع بقاعدة بيانات ضخمة وقوة حاسوبية لم يسبق لها مثيل. خوارزميات جوجل والفيسبوك تعرف بالتحديد كيف تشعر وأشياء آخرى كثيرة عنك لا تتخيل أنها تعرفها. وبالتالي، عليك أن تتوقف عن الإصغاء لمشاعرك وصوتك الداخلي، واستمع جيداً لهذه الخوارزميات .ولكي تستطيع هذه الخوازميات إخبارك أيهم تتزوج، وأي وظيفة تمتهنها وحتى إشعال حرب؛ عليك أن تطلعها على كل بيانات وتفاصيل حياتك الشخصية والعامة وممتلكاتك إلخ والموصولة جميعها بتلك الخوازميات وبالإنترنت. نعم اخترع الإنسان تلك الخوازميات في البداية ولكن عقله لن يستوعب أبداً كيفية عملها الحقيقية ولن يلاحق تطورها وتطوريها السريع لنفسها.

مجرد موجة في بحر تدفق البيانات A Ripple in the Dataflow

حتى إذا كانت البياناتي ة وتصورها المشوه للحياة خاطئاً، وحتى إذا كان التصور بأن الكائنات الحية مجرد خوارزميات خاطئاً، لن يمنع هذا بالضرورة البياناتي ة من السيطرة على العالم. فنموذج معرفي موحد يمكنه بسهولة التحول إلى عقيدة راسخة لا تقهر، خصوصًا إذا خدمه عدد كبير من العلماء والفناني ن والناس.

ولهذا فإن قراءة متفحصة وناقدة لتلك العقيدة ليست فقط أكبر تحدٍ علمي، ولكن أيضًا التحدي السياسي والاقتصادي الأكثر إلحاحًا. وهذا يجب أن يحدث قبل أن يتحول الإنسان من مُ   ص مِم ومُت  حكِم إلى مجرد ترس في هذا النظام أو أقل من ذلك. فالبياناتي ة تهدد الهوموسابينس بمصير مشابه لمصير الحيوانات. فحين يفقد الإنسان قيمته العملية[2] في هذه الشبكة سيكتشف أنه ليس جوهر الوجود وإنما موجة صغيرة في كون البيانات .

مُجدداً لا يمكننا توقع المستقبل الحتمي، ولهذا يفُضَّل أن تؤُخذ السيناريوهات المقترحة في الكتاب على أنها توقعات محتملة وليست نبوءات. إذا لم تعجبك هذه الاحتمالات فلك كامل الحرية للتفكير في حلول أخُرى لمنع تحول تلك الفرضيات إلى واقع. هدف هذا الكتاب هو تمكيننا من رؤية وفهم الواقع لنستطيع التفكير في المستقبل بخيال أوسع، علينا أن نتعلم تجنب المعلومات غير المهمة والمجدية، وأن تكون نقاشاتنا في صميم مشاكلنا الفعلية وليس في هوامش الأمور، كما هو الحال الآن .

كل المشاكل التي نواجهها حالياً هي ظلال لثلاث عوامل رئيسية متشابكة:

  • ق ا ر ب العلم أن يكون عقيدة تشمل كل شيء في الحياة، ويدعي أن الكائنات الحية هي خوارزميات وأن الحياة عبارة عن تدفق للبيانات.
  • انفكاك الذكاء عن كونه وعياً.
  • الخوارزميات اللاواعية و الذكية للغاية ربما تتمكن من معرفتنا بشكل أفضل من معرفتنا لأنفسنا .

و هذه العوامل تطرح ثلاث أسئلة مهمة وهى:

  • هل الكائنات الحية مجرد خوارزميات فعلًا؟ وهل الحياة عبارة عن تدفق للبيانات فقط؟
  • الذكاء أو الوعي، أيهم أكثر قيمة؟

ما النتائج المترتبة على المجتمع والسياسة والحياة اليومية إذا تمكنت الخوارزميات اللاواعية من أن تفهمنا أكثر منا؟

[1] The internet-of-all-things

[2] Functional importance