Crusade

الصلیبیة والجھاد: حرب الألف عام بین العالم الإسلامي وعالم الشمال

أن تجهل الماضي يعني أن تظلَّ طفلاً إلى الأبد” – شيشرون”

بهذه المقولة للخطيب الرومانيّ الشهير شيشرون بدأ المؤلف كتابه الذي أعطاه عنوان: “الجهاد والصليبية.. حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال”. ومن خلال الصفحات الأولى للكتاب يمكننا أن نصل – بسهولة – مع المؤلّف لهذه الحقيقة: أنّ “معرفة الماضي” هي التي ستعرّفنا ما يدور حاليًا في شكل العلاقات بين العالم الإسلامي والآخر بشكلٍ عام.

وهكذا فإنّ المؤلف في هذا الكتاب يسرد محطّات الصراع الكبرى بين العالم الإسلامي وبقيّة العالم.

ومن خلال سرده يضع ملاحظاته وتحليلاته عن أشكال الصراع وانعكاساتها في عالم المسلمين اليوم، فبدايةً من انضواء المسلمين تحت عباءة الإسلام باعتباره الإيديولوجيا العامّة لمقاومة للاستعمار، مرورًا بنهاية كلّ محاولات المسلمين في مقاومة الاستعمار، وصولًا لمحاولات المقاومة من خلال الدولة القوميّة الحديثة، مرورًا بتجارب فكرة القومية العربية التي فشلت أيضًا وصولًا لمرحلة الجماعات الإسلامية المسلّحة التي تعيشها أغلب دول العالم الإسلامي حاليًا.

لا ينطلق المؤلف من نظرةٍ تحليلية محليّة للأحداث وتشكُّل كل تلك التنظيمات وحسب، وإنّما يضعها تحديدًا في إطار الهدف العام للكتاب، وهو: علاقة العالم الإسلامي ببقيّة العالم، وليس العالم الغربي فقط.

مؤلف الكتاب هو ويليام روي بولك. وهو مخطِّط سياسات أمريكي، عمل في مركز تخطيط السياسات في حكومة الرئيس كينيدي والرئيس جونسون، وقاد مباحثات وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل في فترة حرب الاستنزاف. كما أنّه دَرَسَ ودَرَّس في بغداد والقاهرة وبيروت في فترة الخمسينيات ولاحقًا. كما أنّه درّس الأدب العربي والتاريخ في جامعة هارفارد وجامعة شيكاغو. وقد توفي الكاتب في أبريل/نيسان 2020.

نُشر الكتاب بالإنجليزية عام 2018، ونشرت ترجمته العربية عام 2019 بترجمة د. عامر شيخوني ومراجعة د. عماد يحيى الفرجي، عن الدار العربية للعلوم- ناشرون. يقع الكتاب في 582 صفحة، وينقسَّم لخمسة أقسام رئيسية هي:

  • ذكرياتٌ عظيمة ويقظة مؤلمة
  • ردود أفعال المجتمعات الإسلامية التقليدية
  • الاتجاه نحو القومية العلمانية
  • الرجوع إلى الإسلام
  • الإسلام المُحارب

ثم في النهاية لدينا قسمٌ أخير بمثابة خاتمة.

يقسِّم المؤلف في البداية العالم إلى قسمين: عالم الشمال (أمريكا – بريطانيا – فرنسا – روسيا – الهولنديون – البرتغاليون – الصينيون – وحتى اليابان في بعض الفترات). وعالم الجنوب المسلم.

يختلف المستعمِر الشمالي لكنّ ردود أفعال المسلمين لا تتغيّر أبدًا، والتي تتمثّل في المقاومة الفوريّة لهذا المستعمر أو ذلك. لا يختلف رد فعل المسلمين في مواجهة الإمبريالية الروسية، أو الفرنسية، أو البرتغالية أو الإنجليزية. تختلف الإمبريالية لكنّ الاستجابة واحدة.

وكان سبب هذا وفقًا للمؤلف أنّ الإسلام كان دائمًا – وسيظلّ – مركزياً في حياة المسلمين، من بُخارى إلى نيجيريا، ومن البلقان إلى إندونيسيا.

:عرض الملخص

يسرد لنا المؤلف في القسم الأوّل من الكتاب ذكريات حضارة الإسلام المجيدة التي جعلت كلّ دول الجنوب على اختلاف أعراقها ولغاتها نائمةً في سباتٍ عميق، فقد كانت بغداد والقاهرة وقرطبة بالإضافة إلى إمبراطورية تانغ في الصين أقوى عواصم العالم، ومراكز الثقافة والحضارة.

عندما تغيّرت الظروف التاريخية بعض الشئ، كانت إمبراطورية المغول المسلمين في الهند، إلى جانب الدولة الصفويّة في إيران إضافةً إلى الدولة العثمانية، كانت تلك الدول المسلمة مهيبة تقارع دول العالم الأخرى.

ظلّ المسلمون في سُباتهم واعتمادهم على عظمة الماضي حتّى فاجئتهم جحافل الاستعمار الشمالي. ودائمًا ما يفضِّل الكاتب استخدام مصطلح الاستعمار الشمالي وليس الاستعمار الأوروبي لتدخل الصين وروسيا وحتّى اليابان إلى المعادلة.

يمرّ المؤلف سريعًا على أوضاع العالم المسلم قبل الاستعمار الشمالي، وكيف كان الفرد المسلم في أيّ دولةٍ من تلك الدول الإسلامية أفضل حالًا من أيّ فرد أوروبي أو روسي أو صيني.

ولكن فجأةً “لم يدرك الحكّام المسلمون ولا جيوشهم ما الذي أصابهم؟ وربما كان ذلك بسبب ما غشى بصائرهم من الإيمان بتاريخهم المجيد”. ومن هنا بدأت مأساة العالم الإسلامي كلّه من التخبُّط والشتات.

وعلى الرغم من أنّ عنوان الكتاب يوحي بفترة الحملات الصليبيّة، إلّا أنّه لا يذكرها كثيرًا، فقد وقعت في القرن الحادي عشر، إلا أنّه يعتبر – فيما يبدو – أنّها كانت بداية هذا الصراع العنيف الذي امتدّ ألف عام بين العالَمَين.

وهكذا فإنّ الجزء الأوّل من الكتاب يحكي بسرعةٍ وإيجاز عن صعود الإسلام باعتباره قوَّةٌ عالمية بعد وفاة النبي محمّد، وصولاً للقرن التاسع عشر والقرن العشرين حينما اصطدم الإسلام مرةً أخرى بعالم الشمال لكنّه هُزم هذه المرّة.

وصلت الأساطيل الشماليّة إلى عالم الجنوب بشكلٍ متتالي، بعدما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، ومع وصول بريطانيا للهند وقضائها على ما تبقّى من آثار دولة المغول المسلمة في الهند، فقد قضت على إرثٍ إسلاميٍّ عظيم.

يختم المؤلف هذا القسم بقوله: “عندما نريد نحن الشماليون أن نتجاهل هذه الوقائع التاريخية، فإنّ أحفاد الضحايا لن ينسوا أبداً. يزداد بحثُ المسلمين في محرقتهم وكتاباتهم عنها مثلما فعل اليهود. ويلعب التاريخ البعيد دورًا مهمًا في نمو وتزايد مشاعر المسلمين نحو عالم الشمال، وسيظلّ يلعب دورًا في مستقبل العلاقات الدولية. وهذه الذكريات تظهر دون شكّ في حركات العنف الإسلامي المعاصرة”.

وهكذا يعتبر القسم الأوّل من الكتاب تمهيدًا لدراسة قرنين من اصطدام عالم الجنوب مع عالم الشمال.

“حيثما نظر مثقَّفٌ مسلم سيجدُ أنّ عالمه يتحطّم تحت ضربات الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين والهولنديين والروس والصينيين”.

أثار وصول الاستعمار الشمالي إلى عالم الجنوب ردود أفعال المسلمين. وفي القسم الثاني يدرس الكتاب بالتفصيل كلّ ردود الأفعال تجاه هذا الاستعمار. يغطِّي هذا الفصل قرنًا كاملًا (القرن التاسع عشر) من مقاومة الاستعمار ومحاولات “النهوض” في عالم الجنوب.

جاءت أوّل استجابات وردود فعل الجنوب العالمي من قبل السلطان العثماني سليم الثالث. كان نابليون قد غزا مصر عام 1798، وقد خسر مماليك مصر أمام جيشه الحديث، وكذلك خسرت جيوش السلطان العثماني، ما ألجأه لطلب النجدة البريطانية والروسية.

حاول السلطان سليم الثالث أن يأخذ بعوامل النهضة الأوروبيّة، وهكذا بدأ تجديد النظام العسكري العثماني العتيق الذي كانت أساسه قوّات الإنكشارية. لم يوافق الجند الإنكشارية وقادتهم على النظام العسكري الجديد. وبتخطيطٍ محكم مع ابن عمّ السلطان، أطاحوا السلطان وقتلوه. وهكذا أعاق الحرس القديم نهضة الدولة الإسلامية الأبرز. يختتم المؤلف سرده لتجربة السلطان سليم الثالث بقوله: “تحطّم السلطان سليم بجهوده الشجاعة”.

لكنّ أبرز ردّ فعل حقيقيّ لم يكن في عاصمة الدولة الإسلامية الأهمّ في ذلك الوقت، وإنّما كان في القاهرة حيث محمّد علي باشا.

يعتبره المؤلِّف “أهم قادة المقاومة ضد الإمبريالية في العالم الإسلامي”. ولا يستطيع ألا يتسائل الكاتب بعد سرد تجربته: ماذا كان ليكون مستقبل العالم الإسلامي لو نجحت تجربة محمد علي؟ كم من الصعب تقدير ذلك. كما يقارنه بنابليون: فقد ولدا في نفس السنة ولديهما نفس الطموح، وقد فقد كلٌ منهما إمبراطوريةً عظيمة بسبب أحلامة الكبرى.

بدأ محمد علي تجربته بتجربةٍ ألهمت لاحقًا السلطان محمود الثاني – أخو سليم الثالث – عندما قضى على حرّاس النظام الجديد في مصر وهم المماليك فيما عرف تاريخيًا باسم “مذبحة القلعة“. جمعهم محمّد علي وقتل ألفًا من قادتهم، وبهذا خلا له الجوّ للتأسيس: “مصر الحديثة؟ أم دولة مسلمة حديثة؟”.

كانت تجربة محمّد علي طريقًا يحتذيه السلطان العثماني محمود الثاني، فقد حدثت مذبحة القلعة عام 1811. وقد تبعه السلطان محمود الثاني عام 1826 عندما قتل ستة آلاف إنكشاري مرةً واحدة لينطلق في محاولته تأسيس دولة حديثة.

أصبح جيش محمد علي باشا يبلغ 190 ألف مقاتل عام 1833، وفرض سلطته على طول ساحل الشمال والنوبة والسودان وبلاد الحجاز، ووصل حتّى أنقرة، توقّف ابنه وقائده إبراهيم باشا على أبواب اسطنبول. وهاهنا اهتزّت قواعد وثوابت السياسة البريطانية في صراعها مع روسيا القيصرية.

كان على بريطانيا أن تحافظ على السلطان العثماني – الذي طلب حماية روسيا – بأيّ ثمن، وكان هذا جزءًا من صراعها مع الإمبراطورية الروسية. لكنّ هذا أيضًا لم يكن السبب الوحيد للقضاء على محمد علي.

كان وجود دولة مسلمة قوية كما حلم محمد علي شيئًا مقلقًا لبريطانيا بالطبع، لكنّ الاقتصاد أيضًا كان سببًا في القضاء على محمد علي وتجربته المثيرة.

بدأ محمد علي نظامًا صناعيًا قويًا في مصر يشبه النهضة الصناعية في أوروبا، وقد بلغ عدد العاملين في المصانع عام 1830 حوالي 30 ألف عامل، وبالإجمال يقدَّر عدد العمّال الصناعيين في مصر تلك الفترة بـ 400 ألف عامل. حاول البريطانيون إجبار محمد علي على التخلي عن تجربته الصناعية وأن يفتح أسواقه للمنتجات البريطانية، فرفض.

خافت بريطانيا من فرض نظام محمد علي الصناعي على الشام وبقية المناطق التي ضمّها لدولته. وهكذا أجبرت السلطان العثماني محمود الثاني على توقيع اتفاقية “تجارة حرة” عام 1838 وبعدها مباشرةً تدخّلت للقضاء على محمد علي.

أنزل البريطانيون أسطولهم في بيروت وعكا “للدفاع عن السلطان” ودمروا الأسطول المصري، بعد سحب فرنسا دعمها لمحمد علي، وهكذا لم يكن الدافع البريطاني الحفاظ على الدولة العثمانية فقط لتكون حاجزاً ضد الروس، وإنما كان هناك دافع اقتصادي.

كانت نتيجة القضاء على تجربة محمد علي أن خُفِّض الجيش المصري إلى 18 ألف جندي فقط، أي 10% من عدد الجيش الحقيقي الذي بناه خلال ثلاثين عامًا. أصابه الخرف وعاش وحيداً في قصره، وتوفي بعد هذه الأحداث بتسع سنوات.

كانت تجربة محمد علي أهمّ التجارب وردود الأفعال ضد الشمال العالمي، ليس فقط بسبب مقاومته للإمبريالية الشمالية، وإنّما لما سيسرده المؤلِّف لاحقًا من أنّ تجربته قد وضعت بذرةً ستغيِّر مصر كليةً إلى دولة “قومية” ذات هوية وطنية بالمعنى الأوروبي.

كما أسلفنا، فقد كانت تجربة سليم الثالث ومحمد علي أبرز ردود الأفعال الحقيقيّة على الغزو الإمبريالي الشمالي، وستستمرّ ردود الأفعال على شكل مقاومة دائمة، ولكن على طريقة “حرب العصابات”.

وهنا يسرد المؤلِّف عدّة تجارب مقاومة في كلّ العالم الإسلامي. فقد بدأ الأمير عبد القادر الجزائري مقاومته للاستعمار الفرنسي في الجزائر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكذلك الشيخ شامل الداغستاني النقشبندى في الشيشان وداغستان ضد الاستعمار الروسي، والإمام المهدي في السودان ضد الاستعمار البريطاني وعمر المختار في القرن اللاحق ضد الاستعمار الإيطالي، وعبد الكريم الخطابي في الريف المغربي ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وكذلك المقاومون في بلاد آتشيه في إندونيسيا، وغيرهم في أفغانستان وآسيا الوسطى.

يورد المؤلف مقولة للصحفي البريطاني الذي كتب عام 1908 كتابًا عن الاحتلال الروسي لداغستان والشيشان بعدما هزموا الشيخ شامل بعد ثلاثين عامًا من المقاومة، وهذه الكلمات تشرح بالنسبة للمؤلف نمط المسلمين في المقاومة والدفاع عن بلادهم:

هكذا كان هؤلاء الناس الذين تمكّنوا من مقارعة قوة روسيا أكثر من نصف قرن وهزموا جيوشها وهاجموا معسكراتها وسخروا من ثروتها ومجدها وأعدادها وعدّتها دون أن يكون لديهم أيّ دعمٍ خارجيّ وبلا مدافع سوى ما استولوا عليه من عدوّهم، ودون أن يثقوا بأحد إلا بالله ورسوله وبأيديهم وسيوفهم.

ويدلِّل المؤلف على فرضيّته التي وضعها في أوّل الكتاب، من أنّ حقائق التاريخ والجغرافيا لا تتغيّر ولا زالت تعمل عملها في حاضرنا. وهكذا فإنّ أحفاد الشيخ شامل الداغستاني أيضًا “استرجعوا حميّة أسلافهم وحاربوا الروس عام 1990 في سبيل الاستقلال. فالتاريخ سلسلة لم تنقطع عند زمنٍ ما في الماضي. تتغيّر الأسماء والتواريخ ولكنّ النهج الذي امتدّ قرابة قرنين من الزمن يتكرّر مراتٍ متتالية”.

الخلاصة من هذا القسم من الكتاب أنّ المسلمين كان يمكنهم القتال لكن لم يكن في إمكانهم الانتصار. وهكذا يقول المؤلِّف: على الرغم من أنّ الإسلام – كما كان معتنقًا آنذاك – كان عاملًا ضروريًّا في المقاومة، إلا أنّه لم يتمكّن وحده من وقف الإمبريالية.

وكان تتويج هذا النصف قرن من مقاومة الاستعمار في ظهور شخصية ذات تأثير ممتد وكبير في أرجاء العالم الإسلامي. وهو جمال الدين الأفغاني. يسهب المؤلف في الحديث عن الأفغاني وتأثيره في العالم الإسلامي، وتلامذته المثقفين الذين تركهم في طهران وإسطنبول والقاهرة وبيروت وغيرها من المدن، وكيف أثروا لاحقًا في حركات التحرر الوطني من الاستعمار الشمالي.

وفي المحصّلة النهائية، كانت حصيلة هذا القرن من الصراع مع الشمال العالمي أن أدرك القادة المسلمون في جميع أنحاء العالم الإسلامي الحاجة إلى إيجاد إطارٍ جديد يناسب مقاومتهم ضد الشمال. وكان هذا الإطار الجديد هو القوميّة.

“إنّ قراءة القرآن هو أوّل ما يسمعه الأطفال ولو لم يفهموا ما يسمعونه، وهو أقوى ما يؤثِّر في تعليمهم وثقافتهم وليس اللغة.”

هذا القسم الثالث هو أكبر اجزاء الكتاب وربّما أهمّها، لأنّه يقرأ ويحلِّل تلك الفترة الممتدّة من نهايات القرن التاسع عشر ما قبل الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانيّة وحتّى سقوط صدّام بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

وهو أيضًا القسم الذي يبحث ويحلِّل تكوُّن فكرة القوميّة العلمانيّة لدى عالم الجنوب قبل انهيار الدولة العثمانيّة، وانعكاسها في محاولات تشكٌّل الدول القوميّة الحديثة في كلّ أرجاء العالم الإسلامي، مرورًا بالطبع على فكرة القومية العربية التي حاول جمال عبدالناصر تطبيقها.

ولكن قبل الخوض في فكرة تشكُّل القوميّة، يمكن لنا أن نضيف ملاحظةً عامّة من القسم السابق الذي تناول فيه ردود أفعال المسلمين على الغزو الشمالي:

بينما كان نابليون يتّجه إلى مصر عام 1798 كانت الجزائر هي التي موّلت حملته بالحبوب التي يحتاجها. أصبحت فرنسا مدينةً للجزائر بأموال تلك الحبوب، وبعد ربع قرن عندما طالبت الجزائر فرنسا باسترداد هذا الدين احتلّتها فرنسا. ولكن بينما فرنسا تحتلّ الجزائر ويقاومهم الأمير عبد القادر كان محمد علي حليف الفرنسيين الموثوق، وبينما كان السلطان العثماني ومحمد علي يتقاتلان كانت فرنسا تقتل المسلمين في الجزائر.

يضيف المؤلف ملاحظةٍ أخرى، وهي أنّ العالم الإسلامي في تلك الفترة لم يكن مترابطًا كما يمكن له أن يكون مترابط حاليًا بفضل التكنولوجيا. فلم يكن مقاومو فرنسا في الجزائر على علمٍ بمقاومة أهل آتشية وجاوة للاستعمار البرتغالي والهولندي، ولا بمقاومة المسلمين المغول في الهند. لاحقًا حدث التواصل، لكن حينها، كانت كلّ منطقة/مدينة/دولة تتعامل مع استعمار الشمال بشكلٍ منفرد.

يعتقد المؤلف أنّ “الإسلام باعتباره إيديولوجيا مقاومة” قد خسر في معاركه ضد عالم الشمال في الشيشان وفي مصر وفي الجزائر والمغرب وفي الدولة العثمانية كلها، كما خسر في إيران وفي إندونيسيا وماليزيا وآسيا الوسطى.

قاد ذلك كله إلى تفكير البعض بأنّ: الإسلام كان سبب الهزيمة. كما أنّ البعض اعتبر أنّ الإسلام هو ماتسبّب في ضعف الدول المسلمة. خصوصًا أنّ بعض الفقهاء التقليديين رفضوا “الحداثة الشماليّة” تمامًا ودعموا استمرارية النظام القديم المنهزم.

وهكذا أصبح من الضروري التخلِّي عن “التراث” للتقدُّم لـ”الأمام”. قاد هذا بالطبع للصراع بين العلماء التقليديين والنخب العلمانية الأخرى التي غالبًا ما درست في عواصم الاستعمار أو درست مناهج المستعمر في بلادها، والتي كان ينظر بشكلٍ كبير أنّهم “وكلاء الاستعمار” لكنّ هؤلاء “الوكلاء” انقلبوا على الاستعمار كما سنرى لاحقًا.

بدأت فكرة القوميّة في أوروبا، بالتحديد في ألمانيا وفرنسا. وهكذا بدأت تنتشر في الجزء الأوروبي من الدولة العثمانية تأثُّرًا بأوروبا الغربية التي هي منبع فكرة القومية. انتشرت القومية لدى اليونانيين، واستطاعوا طرد العثمانيين، وهكذا انتشرت القوميات في جسد الدولة العثمانية الذي كان يضم أعراقًا ولغاتٍ مختلفة. وهكذا بدأ بعض الأتراك يسألون أنفسهم عن جدوى تمسّك الدولة بـ”العثمانيّة”.

وهكذا بدأ تشكُّل القوميّة التركية الحديثة بسبب ثورات وتمرُّدات قومياتٍ أخرى داخل جسد الدولة عليها. لكنّ المؤلف يبدو ناقدًا لفكرة القوميّة العلمانية في العالم الإسلامي. يسوق لنا المؤلِّف جزءًا من كتابات ضياء جوك ألب، منظِّر القوميّة التركية الرئيسي، والذي يعتبره الأتراك أبو القومية التركية الحديثة التي طبّقها مصطفى كمال أتاتورك لاحقًا.

ولد ضياء عام 1875 وتوفي عام 1924. تأثّر بكتابات الألمان عن القومية، والتي كان أساسها أنّ “الأمّة” هي أيّ مجموعة من الناس يتحدّثون لغةً واحدةً مشتركة. ردّد ضياء جوك ألب مقولات الألمان، وكتب أنّ أساس وجوهر القومية التركية هو:

رابطةٌ أقوى وأعلى من العِرق والجماهيريّة والجغرافيا والسياسة والمشاعر… يكتسبُ المرءُ أهمّ وأعمق مشاعره في فترة الطفولة، حينما يكون في المهد يستمعُ إلى الهنهنات والتهاليل ويكون تحت تأثير لغة والدته… نكتسبُ ديننا وأخلاقنا ومشاعرنا الفنية التي تمنح الوجود لأرواحنا من خلال هذه اللغة… كلُّ شئٍ في حياتنا هو ترديدٌ وصدىً لما تربّينا عليه.

أراد ضياء توحيد لغة الدولة العثمانيّة، ولكن إلى اللغة التركيّة وليس إلى العربيّة كما فكّر السلطان عبدالحميد الثاني. لأنّ الأتراك هم حكّام وقادة الدولة العثمانيّة. فكّر ضياء أنّ اللغة التركية عندما تطبَّق على جميع الشعوب والأعراق في الدولة العثمانية فسيصبحون جميعًا أتراكًا، لأنّهم تحدثوا نفس اللغة!

يعلِّق الكاتب على هذه الفقرةٍ تعليقًا ناقدًا: في المجتمعات المسلمة لم تكن أصوات الهنهنات والقصص الشعبية والحكايات الخرافية هي التي تشكِّل ذهنية وتفكير الأطفال، بل كانوا يتعرضون أيضًا إلى أصداءٍ أخرى. إذ أنّ قراءة القرآن هو أوّل ما يسمعه الأطفال ولو لم يفهموا ما يسمعونه، وهي أقوى ما يؤثِّر في تعليمهم وثقافتهم وليس اللغة.

للتدليل على تعليقه وانتقاده، يضرب المؤلف مثالاً بكبار السن في الصومال وفي الفلبين والأيغوريين والقوقازيين والأفغان والباكستانيين وكل الشعوب المسلمة غير الناطقة بالعربيّة، ويقول أنّ: التجربة التي تُتوِّج خبراتهم هي الانفجار الحقيقي لأصوات تلاوة القرآن الكريم التي يسمعها الحجاج في مكّة. فالمسلمون يشعرون بالوحدة حين يقفون في مكّة ويصلُّون لنفس الوجهة ويقرأون نفس القرآن.

وهكذا فإنّ أوّل المشكلات التي تواجه فكرة “القوميّة” هو القرآن المكتوب والمتلوُّ بلغةٍ عربيةٍ فصحى لا لبس فيها.

بدأ تشكُّل القوميّة لدى كلّ العالم الإسلامي تقريبًا في وقتٍ واحد، وبهذا الترتيب:

  • هزيمة الإسلام كأيديولوجية مقاومة ضد جيوش عالم الشمال.
  • إرسال بعثات علميّة للخارج ( بعثات محمد علي – بعثات الدولة العثمانية – بعثات الدولة القاجارية في إيران).

وكما نقرأ لضياء جوك ألب، فإنّنا نقرأ لرفاعة رافع الطهطاوي قبله بعقودٍ طويلة، قوله:

كلُّ ما يربط المؤمن بأخيه المؤمن يربطه أيضًا بأفراد الوطن، بسبب وجود رابطة أخوّة وطنيّة أعلى من أخوّة الدين. هناك واجبٌ أخلاقيّ على جميع الذين يعيشون في الوطن نفسه لكي يعملوا معًا على تطويره وتحسين تنظيمه بكلّ ما يتعلّق بشرفه وعظمته وثروته.

كُتبت هذه الكلمات بيد عالمٍ أزهري كانت مهمّته في البعثة التي أرسلها محمد علي هي الحفاظ على “دين وتقوى” المبتعثين إلى فرنسا كي لا يتأثّروا بالفتن الباريسية.

كان “حبّ الوطن” بالنسبة للطهطاوي المحرِّك الذي يدفع الشعوب الأوروبية للأمام. وهكذا فقد “أُسِرَ” المصريون (النخبة) تحت قيادة الطهطاوي بفكرة “مصر” و”الوطن” ولكن بنكهةٍ فرنسيّة. ترافق هذا مع عمليات التحديث الشاملة التي أخذها محمد علي من فرنسا أيضًا.

من النواة التي أطلقها الطهطاوي، بدأ الصحفي وخطيب الثورة العرابية عبدالله النديم كتابة مسرحيته عن مصر الجديدة المبنيّة على “مصر القديمة” اسم المسرحية هي “الوطن”. كان النديم تلميذًا للأفغاني واستقبله السلطان عبدالحميد في اسطنبول بعدما هُزم أحمد عرابي ونفي هو ورفاقه ومن ضمنهم عبدالله النديم.

عرضت مسرحية “الوطن” في دار الأوبرا الجديدة التي بناها الخديوي إسماعيل وعرضت فيها “أوبرا عايدة” التي ألّفها جوسيبي فيردي ومجّد فيها أيضًا “مصر القديمة الفرعونية”. وبعد عرض تلك المسرحية بستّ سنوات فقط ظهرت جريدة مصرية باسم “الوطن”.

وفي نفس المسار تأثّر بالطهطاوي لبنانيان هما: أحمد فارس الشدياق، وبطرس البستاني (مسيحي). عاد الشدياق للفكرة الإسلامية لاحقًا، وانطلق بطرس للعلمانية. أطلق بطرس أوّل موسوعة باللغة العربية وأول قاموس عربي. والجدير بالذكر أنّ بطرس البستاني كان يتخيّل وصول شعب جبل لبنان ليقظةٍ ثقافية قوميّة ضمن إطار هيكلية الحكم العثماني وليس خارجه.

أمّا في إيران فقد قاد التدافع السياسي فيها بين البازار (مؤسسة السوق) والمؤسسة الدينية من ناحية والشاه القاجاري من ناحية، إضافةً إلى التدخلات الخارجية من قبل روسيا القيصرية والبريطانيين، أدّى كل ذلك لدراسة بعض الشباب الإيراني في ألمانيا، فقد كانت ألمانيا وجهًا “أبيضًا” بالنسبة للإيرانيين، لم تتدخّل في بلادهم ولم تحتل بلادًا إسلاميّة. ومنها انطلقت أوّل بذور القومية الإيرانية، وطالبوا في ثورة 1905 بالمشروطية الدستوريّة.

ووفقًا لسرد المؤلّف فيبدو أنّه يعتقد أنّ منبع القومية/الوطنيّة في العالم الإسلامي كان من مصر، مع رفاعة الطهطاوي وتجربة محمّد علي، وانتشرت لاحقًا في الشام وبقية أجزاء الدولة العثمانيّة، وفي إيران كان تأثير الدراسة في ألمانيا هو أساس القومية الإيرانية.

لكنّ المؤلف يعلِّق تعليقاً ذو مغزى في نهاية فصل تشكُّل قومية إيران: وصلت الوطنيّة إلى إيران مثلما ستصل إلى العرب وشعوبٌ أخرى، مع أحذية الجنود! أي أنّها وصلت فقط مع الاستعمار، ولم يكن لها مكان قبل ذلك.

فكيف تشكّلت القوميات في عالم الجنوب الإسلامي إذن؟

الإجابة على هذا السؤال لدى المؤلف متناثرة في الفصول الطويلة الذي يفردها بدراسة كلّ دولة بحالها. ويمكن تلخيصها في هذه العوامل الثلاثة:

1-  بسبب زعماء الاستقلال الوطني الذين درسوا في جامعات المستعمر، أو ارتبطوا به بشكلٍ مباشر (أمثلة: رشيد عالي الكيلاني في العراق – سعد زغلول في مصر – محمد علي جناح مؤسس باكستان)

2-  تأثُّر المثقفين والمفكرين المسلمين بفكرة القومية من ألمانيا وفرنسا على وجه التحديد (مثل: ضياء كجك ألب في تركيا – الطهطاوي في مصر)

3- استخدام الاستعمار البريطاني للسكّان المحليين جنودًا في الحربين العالميتين.

بالنسبة للعامل الأوّل، فقد عمد الاستعمار البريطاني لصناعة “طبقة من النخبة” تكون موافقة ووكيلة له في البلاد المستعمرة. درست هذه النخبة مناهجه وتشبّهت بأساليبه وحتّى فكّرت مثله.

عندما دَرَسَت هذه الطبقة (أو تأثرت) بمناهج التعليم الأوروبي تشبّعت بأفكار الديمقراطية والتحديث، وتسائلت بينها وبين نفسها: لماذا ليس لدينا ديمقراطية؟ وهنا اصطدمت بالواقع: إنّ السبب هو المحتلّ. وهكذا تبلور موقف مضاد للاستعمار لدى العديد من رجال هذه النخبة.

لتوضيح ما يقصده الكاتب يضرب أبرز مثالين على ذلك في العراق ومصر. في العراق كان رشيد عالي الكيلاني “وكيلًا للاستعمار وصديقًا له” وفق توصيف الكاتب. لكنّه انقلب ضدّ الاستعمار وطالب بالاستقلال العراقي عن التاج البريطاني. وكذلك كان سعد زغلول في مصر، الذي كان صديقًا للورد كرومر “المندوب السامي البريطاني في مصر”.

في عام 1906 أعطى اللورد كرومر وزارة التعليم لصديقه سعد زغلول، وبمواربةٍ ولعبة سياسية مُتقنة، أدخل سعد زغلول اللغة العربيّة في مناهج التعليم، تجاهل البريطانيون ذلك مطمئنّين إلى أنّه “وكيلهم المحلّي”، لكنّ هذا الوكيل المحلي انقلب فجأة وطالب بالاستقلال وأصبح قائدًا لثورة 1919.

يعتبر المؤلف رشيد عالي الكيلاني نموذجًا مشابهًا لسعد زغلول، فقد كان وكيلًا محليًا للبريطانيين وتولى رئاسة الوزارة أثناء الاستعمار ثلاث مرات.

حاول تأسيس شعور قومي “عراقي”، ومع نشوب الحرب العالمية الثانية تواصل مع الألمان وحاول طرد القوات البريطانية من أهمّ قاعدةٍ عسكريةٍ لها في العراق. فشلت معركته ونفي وعاش في ألمانيا وانتهى به المقام منفيًا في السعوديّة. لكنّه كان علامةً فارقة في تشكُّل الشعور القومي في العراق.

يذكر المؤلف أمثلة أخرى في العالم الإسلامي مثل أحمد سوكارنو في إندونيسيا ومحمد علي جناح الذي أسس باكستان.

بالنسبة للسبب الثاني فقد وضحته في جزئيّة تشكّل الهوية القومية بالحديث عن رفاعة الطهطاوي وضياء كجك ألب.

أما السبب الثالث وهو استخدام الاستعمار البريطاني للسكّان المحليين جنودًا في الحربين العالميتين. فقد كانت بريطانيا ضئيلة الحجم والسكان، وكان قوام جيشها الحقيقي ليس بريطانيًا وإنما هنديًا، فقد كان الجيش الهندي-البريطاني حوالي 300 ألف جندي، وهو رابع أقوى جيش في العالم في ذلك الوقت.

استخدم الاستعمار البريطاني الفروقات العرقية والدينية لتجنيد السكان المحليين، وهكذا لم تكن “الهند” هندًا بالمعنى الذي نعرفه عنها الآن، فقد كانت خليطًا من الديانات والطوائف تعيش بسلام تحت حكم دولة المغول المسلمين.

حين وصل الاستعمار البريطاني جنّد – بالقوّة – المسلمين ضدّ البوذيين والعكس بالعكس، واستخدمهم لضرب بعضهم بعضًا، ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، فقد كانت استراتيجية بريطانيا في الحربين العالميتين هي تجنيد المحليِّين قدر الإمكان، وبخصوص استراتيجيتها في العالم العربي، فقد حاولت أن تلعب على وتر “قوميّة” العرب لمحاربة العثمانيين “الأتراك”. وهكذا فعندما بدأت تؤسس لتلك القومية لجأت لوضع الشعر العربي في المناهج الدراسية للدول التي تقع تحت استعمارها أو انتدابها ليخلق بديلًا “قوميًا” عن الشعور “الإسلامي – العثماني”.

لكنّ البريطانيين لم يكونوا يعلمون أنّ الشعر العربي فيه قيم ومبادئ تناهض هذا الغريب المستعمر، وهكذا دون أن يدروا فقد خلقوا لدى جيلٍ كامل من الأطفال والشباب شعورًا قوميًا بضرورة إخراج الاستعمار المسيحي المستغلّ الظالم. وهكذا بعدما انتهت الحرب العالمية الأولى وسقطت الدولة العثمانية أصبح لدى العرب شعورٌ عارم وصارم بضرورة طرد هذا الاستعمار. يقول المؤلِّف أنّ مشاعر الولاء والفخر ورفض الظلم التي جاءت مع الشعر العربي، تطوّرت لاحقًا  – بشكلٍ أو بآخر – للقوميّة.

وقد شجّعت بريطانيا المشاعر القومية ليس فقط لدى العرب وإنما لدى اليونانيين واليوغسلافيين ولدى الماليزيين. ومع هذا الشعور القومي المتنامي، كان الاستعمار هو الذي أعطى وعدًا لليهود بوطنٍ قوميّ على أرض فلسطين.

يُسهب الكاتب في حديثه عن فلسطين مُظهِرًا همجية ووحشية عصابات الإسرائيليين وكذلك ازدواجية البريطانيين ضدّ المسلمين تحديداً. وفي هذه النقطة يضرب مثالًا أنّ عالم الشمال عندما كان يستعمر أيًا من أمم عالم الجنوب كان يستطيع التعامل والتوافق مع الديانات الأخرى، لكنّ الإسلام مثّل بالنسبة له عدوًا دائمًا وشاملًا يجب إبادته دون رحمة، كان هذا هو التفكير المسيطر على عالم الشمال في كلّ الحالات والأحداث والأزمنة والأمكنة.

يعود المؤلف ليضع لنا نقطةً أساسيّة، في شكل علاقة عالم الجنوب وعالم الشمال. فقد كانت الدول الإسلامية دائمًا أكثر سماحةً مع الديانات الأخرى من عالم الشمال. وكان سبب عدم اهتمام المسلمين بأوروبا أمرين:

1-  أنّه ليس لدى أوروبا ما تقدمه لهذه الحضارة الإسلامية العريقة.

2-  لم يكن المسلمون مرحبًا بهم أبدًا في الشواطي الشمالية – الغربية للبحر المتوسط ولا غيره، فقد كانوا دائمًا أعداء. بينما كان يمكن للأوروبيين التجوُّل في العالم الإسلامي كله دون قلق.

وهكذا، خلق التسامح لدى العالم الإسلامي نظامًا يحترم الاختلافات الدينية، فكلّ غير المسلمين هم “مِلّة” ولهذه الملّة ممثِّلون في الدولة العثمانية، ولديها هيئاتها القضائية والاجتماعية الخاصّة ونظامها الإداري، بل وعلاقات خارجيّة. وعلى العكس من المسلمين الذين كانوا هم حكّام تلك الدولة، لم يكن لديهم أيّ مؤسسات خاصة أو هيئات غير هيئات الدولة.

حينما انهارت الدولة العثمانية وانكمشت، عانت أغلب الشعوب المسلمة من عدم وجود “فلسفة المؤسسات” ولا “فلسفة الإدارة”. وهكذا سقطت في التخبُّط والعشوائية بشكلٍ تام. وهذا ما حصل للفلسطينيين، فبينما كان اليهود في أرجاء الدولة العثمانية “مِلّة” فقد تدرّبوا على بعض أدوات ونظم الإدارة والسياسة، على العكس من المسلمين البسطاء.

كذلك فإنّ اليهود المستوطنين من أوروبا كانوا قد تاثروا وتشبعوا تمامًا بفكرة “القومية” من أوروبا”.

وقد كان المسلمون يفتقدون الخبرة في إدارة الكثير من أمورهم. فقد كانت مدارسهم وعياداتهم مؤسساتٍ حكومية، وليس لديهم زعماء سوى الموظفين العثمانيين، وكذلك لم يكن للمسلمين أي خبرة في التعامل مع العلاقات الخارجية أو التعامل مع الأجانب مثلما كان لدى المسيحيين ولا اليهود أيضًا الذين جائوا من كلً أرجاء أوروبا.

وللحديث عن جدليّة بيع الأرض في فلسطين، يذكر المؤلف قصةً مثيرة. فقد حاول الإسرائيليون مرارًا شراء جزءً كبير من الأراضي في فلسطين  أيام السلطان عبدالحميد الثاني لكنّه رفض. القصّة التي يقصّها عليها المؤلف تضع إطارًا أوضح لهذه الجزئيّة من قصة فلسطين:

في عام 1872 حصلت عائلة لبنانية ذات أصل بيزنطي (عائلة سرسق) على ملكية مساحة أرض ضخمة في فلسطين، بلغت مساحتها 50 ألف فدانًا، وفيها 72 قرية في منطقة مرج ابن عامر.

كان القرويُّون قبل وصول عائلة سرسق قد سجَّلوا ملكية أراضيهم بأسماء الإقطاعيين الذين عرضوا عليهم حمايتهم، وهكذا كان العالم يتحرّك تجاه “القانون” والفلاحون البسيطون يتحركون تجاه الأرض.

اشترى آل سرسق عقود التمليك تلك فأصبحوا ملَّاكًا للخمسين فدانًا. وفي عام 1920 اشترت وكالة المشتريات الصهيونية الأرض من آل سرسق. كان آل سرسق قد اشتروا هذه الفدادين الضخمة منذ خمسين سنة بعشرين ألف جنية استرليني، وباعوها بـ 726 جنيه استرليني.

وهكذا انتهت قصّة 72 قرية فلسطينية بفلاحيها، بأرضهم التي ورثوها عبر القرون الماضية.

باختصار: كانت قوانين الدولة العثمانية ونظامها الاقتصادي في منطقةٍ أخرى من العالم. وعندما انهارت الدولة، وانكمشت على نفسها بالقوّة، وتحولت لدولة قومية وجدت أغلب الشعوب “العثمانية” التي لم تطوِّر شعورًا بالقومية نفسها ضائعة.

ينتقل الكاتب بعد فلسطين إلى الحديث عن تجربة مصطفى كمال أتاتورك، الذي تأثر كثيرًا بكتابات ضياء كجك ألب الذي ذكرناه سابقًا، وكان على تواصل معه هو ومجموعته القوميين، ويعتبر الكاتب أنّ أتاتورك قد دشّن في العالم ما أسماه “عهد الرجال العِظام”، بدايةً من ستالين إلى هتلر إلى موسوليني، إلى روزفلت وتشرشل إلى الشاه رضا في إيران الذي حاول أن يحذو حذو أتاتورك تمامًا.

وهو أيضًا عهد رجال مثل محمد علي جناح وأحمد سوكارنو وجمال عبدالناصر وأحمد بن بلّة.

وبعد الحديث عن فلسطين وأتاتورك، يعود المؤلف ويغوص أكثر في تجارب المسلمين النضالية في أفغانستان ووسط آسيا وكشمير والهند وتأسيس باكستان، ويخرج بنفس النتيجة وهي أنّ:

1-  لم يكن من الممكن بلورة شعور “قومي” في كلّ تلك المناطق، فكل المسلمين كانوا يخضعون لدولة كبرى ذات نطاق حكم واسع، والناس داخلها ينتمون لقراهم أو لمدنهم الصغيرة.

2-  أنّ الإسلام باعتباره إيديولوجيا مقاومة لم يستطع وقف الشمال العالمي، ومن هنا بدأ الشعور بالقومية العلمانية خطوةً خطوة.

3-  أنّ تجارب المسلمين كلّها متشابهة مع الشمال العالمي، سواءٌ في أفغانستان أو داغستان أو كشمير أو الكازاخ أو الشيشان أو الجزائر أو مصر أو جنوب شرق آسيا.

ثمّ يُعرِّج على تجربة عبدالناصر، وقد قابل الكاتب جمال عبدالناصر ومع العديدين من المقربين منه باعبتاره مبعوثًا أمريكيًّا. يذكر بعض التفاصيل عن تجربة عبد الناصر، التي تشبه كثيرًا تجربة محمد علي.

لم يجد عبدالناصر بعد الاستقلال غير مؤسسة الجيش التي يمكنه الاعتماد عليها، وهكذا اجتذب عددًا هائلًا من الفلاحين المصريين للجيش، كانوا يتخرجون بعد سنة أو اثنتين من الجيش، وقد اكتسبوا وتعلَّموا بعض المهارات التقنية وغيرها من الجيش، مما جعلهم يعيشون في المدن ويعملون في المصانع والوظائف التي كانت تحتاجها تجربة عبدالناصر التحديثية.

بهذا فإنّ “الوطنيّة المصرية” الممتدة من محمد علي إلى عبدالناصر قامت بالأساس على المهارات التي يستفيدها ويتعلّمها المواطن من “مصنع الجيش”، وهكذا فإنّ آثار هذه العمليّة كانت ضخمة على المجتمع (وربما نشاهد آثارها في واقع مصر الحالي). يذكر المؤلف بعض الأرقام عن المصانع والتعليم بشكل عام في مصر بعدما بدأ عبدالناصر مشروعه.

,في تقييمه لتجربة القومية العربية لناصر يعتبر أنّه كان حالمًا، لكنّ مقدّرات مصر لم تكن تستطيع استيعاب أحلامه!

يذكر في أحد الهوامش أنّه باعتباره عضوًا في مجلس التخطيط الوطني الأمريكي تحدث مع عبدالناصر في القاهرة بخصوص تدخله المباشر في اليمن، وللمفاجئة قال له عبدالناصر: أعلن الجمهوريون في اليمن أنّهم قاموا بالثورة باسمي، وأنّها نُفِّذت بالأساس لتحقيق القومية العربية، وبالتالي لم يعد لديّ أيّ خيار سوى دعم الثورة في اليمن!

سأله في آخر اللقاء: أنت لا تعتقد أنّني سأربح هذه الحرب، أليس كذلك؟ فردّ عليه ويليام: كلا سيادة الرئيس، لا أعتقد ذلك.

يمرّ المؤلِّف ببعض التفصيل على تجربتي صدّام حسين ومعمّر القذافي، ومحاولتهما ملأ فراغ عبدالناصر الذي تركه، وكيف أنّهما كانا مندفعين، وجعلتهما أموال النفط أكثر “تخبطًا وعشوائية”. لكنّه يعود ويقرِّر: ما أدّى إلى دمار العراق وليبيا ليس سياساتها الداخلية البشعة، بقدر ما كان التحدِّي الذي أظهروه للشمال العالمي.

ويبدو من جديد أنّ شعورَي الاستناد على الماضي العظيم للمسلمين، وشعور الإهانة والمذلّة الذي تعرّضوا له تحت وطأة الاستعمار، يحرّكان ليس فقط الشعوب المسلمة، وإنّما يحركان صانعو السياسات المسلمين كذلك.

ولتوصيف هذا الشعور بـ”الإهانة”  يسوق المؤلف اقتباسًا على لسان اليساري الإسرائيلي يوري آفنيري:

خلال المئتي سنة الأخيرة كان العالم العربي معرّضًا للمذلَّةِ والقمع، وربما تصلّبت المذلَّة في روح كل طفلٍ وفتاةٍ عربية أكثر من القمع. أُعجِبَ العالم كله بالحضارة العربية وعلوم العرب، فخلال عصور الظلام الأوروبية ذُهِلَ الغربيون البرابرة بالحضارة الإسلامية. لا يستطيع شابٌ عربيّ أن يتجنّب مقارنة عظمة ماضي الخلافة بسوء الواقع العربي المعاصر، الفقر والتخلُّف والضعف السياسي.. هناك خزّانٌ هائل من القهر يتصاعد في العالم العربي لا تراه ولا تلحظه الحضارة الغربية.

“منحت أمريكا نظام الشاه المال والسلاح ودرّبت رجاله وأسقطت أعداءه، ولكن عندما حان وقته لم ينفعه شئٌ من كل ذلك.”

فشلت أغلب محاولات القوميّة أيضًا في التصدِّي لعالم الشمال، بنجاحٍ محدود فقط لمصطفى كمال أتاتورك.  ويمكن لنا أن نجمل المراحل التي مرّ بها عالم الجنوب المسلم خلال قرنٍ ونصف من محاولات النهوض والاستقلال، منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتّى النصف الثاني من القرن العشرين، بهذه المراحل:

  • هزيمة الإسلام باعتباره إيديولوجيا مقاومة
  • الإنطلاق نحو القوميّة (العربية – التركية – الإيرانية – الماليزية…..إلخ)
  • هزيمة القوميّة العربية وانهيارها
  • سقوط القوميّات الوطنيّة فيما أسماه المؤلف “مرض ما بعد الإمبريالية”.

والآن حان للتاريخ أن يدور دورته بعد قرنٍ ونصف من المحاولات التي انتهى أغلبها بالفشل. وبهذا يمكن لهؤلاء المليار ونصف مسلم العودة من جديد للإسلام.

يسرد عدّة تجارب عن العودة للإسلام بصيغٍ جديدة. فيبدأ بسرد تجربة الخميني وثورته الإسلاميّة، ثمّ يعود ليدرس تجربة الإخوان المسلمين، ويُفرد فصلًا كاملًا وكبيرًا لسيّد قطب، الذي أسماه “فيلسوف الثورة الإسلاميّة”. وربما أفرد فصلًا كبيرًا له لأنّه يعتبره النواة التي انطلق بعدها ما أسماه “الإسلام المحارب”.

ثمّ يعود المؤلف لدراسة تجربة المقاومة الفلسطينيّة وكيف بعدما فشل عرفات صعدت حماس (الرجوع للإسلام) ويسرد انقلاب فتح عليها – بتغطيةٍ ودعم من الشمال العالمي – بعد انتخابات 2006 وما وصل إليه الوضع الحالي.

كما يفرد فصلًا لحزب الله الذي اعتبره “أمّة بلا دولة”. ويعتبر أنّ حسن نصر الله “واحدٌ من أقدر الرجال الذين ظهروا في سياسات الشرق الأوسط”. ثمّ يصل في النهاية إلى تجربة الأويغور في إقليم شينجيانغ في الصين وكيف أنّ سياسات الشمال (الصين هذه المرة) ألجأتهم أيضًا لاستخدام العنف باعتباره السبيل الوحيد والأخير لمقاومة عالم الشمال.

بعد الكثير من التفاصيل والدراسات لتلك التجارب، نصبح مهيَّئين للدخول مع الكاتب في المرحلة الأخيرة التي وصلها عالم الجنوب المسلم، وهو ما أطلق عليه اسم “الإسلام المحارب”.

“مثلما كانت المجتمعات الغربية تنظر إلى الشيوعية كقوة ثورية هائلة، فقد كان قادة بريطانيا وفرنسا وروسيا يعتبرون “الإسلامية العالمية” كذلك.”

في بداية القسم السابق يخبرنا المؤلف أنّ إيديولوجيا الإسلام لم تنجح في المقاومة وكذلك فشلت القوميات العلمانية، وهكذا وصلنا لمنطقة الرجوع للإسلام مرة أخرى. وهذا الرجوع وإن سار بالتوازي مع نهايات الأفكار القوميّة، إلا أنّ فشله أيضًا في التعاطي والتعامل مع الشمال العالمي أوصل الجنوب إلى المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة “الإسلام المحارب”.

يكرّس المؤلف هذا القسم لدراسة تجارب القاعدة وأسامة بن لادن وحركة الشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا ثمّ يدرس بعض كتابات منظري “الجهاد العالمي” مثل أبو مصعب السوري وأبو بكر ناجي في كتابة “إدارة التوحُّش” ثمّ يصل للتطوُّر المنطقي لهذه التجارب: الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

من الملاحظات المهمة التي يضعها الكاتب في هذا القسم أنّ تجربة الجهاد في أفغانستان لها رمزية كبيرة جدًا، فهي التجربة الوحيدة التي استطاع فيها شعبٌ من شعوب الجنوب المسلم طرد جيشٍ من جيوش الشمال الأحسن تنظيمًا والأقوى والأكثر عددًا. يعلّق المؤلف:

كان ذلك اكتشافًا ثوريًا: لم يتمكّن أيّ واحدٍ من كبار زعماء المتمردين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، من تحقيق هذه المهمّة، فقد فشلوا واحدًا تلو الآخر في طرد الغزاة، ولم ينجح في ذلك سوى أتاتورك الذي طرد فقط اليونانيين.

ومن أفغانستان اكتسب الإسلام المحارب شرعيته الحقيقيّة المستمرّة حتى الآن في جماعات العمل المسلّح.

وبالنسبة للمؤلِّف فإنّ ظهور الإسلام المحارب جاء نتيجة طبيعية ومنطقية ومفهومة (وإن ليست مبرَّرة)، فهي رد فعل على سياسات الشمال الإمبريالي الذي غزا دولتين مسلمتين من دول الجنوب في ظرف سنتين (أفغانستان ثم العراق).

بالنسبة له، فقد حاول عالم الجنوب المسلم أن يحلّ مشاكله بكلّ الطرق الممكنة والمتاحة، فبدايةً قلّدوا الأوروبيين (مثلما فعل أتاتورك وشاه رضا) ولم ينفع ذلك، كما حاول بعضهم مصادقة الأوروبيين واستنسخ تجاربهم بشكل يكاد يكون شبه كامل ولكنّهم لم يقبلوه بينهم (محمد علي وبدرجة أقل محمود الثاني). كما أخذت الطرق الصوفية دور الجهاد الإسلامي ضد الاستعمار في ليبيا والجزائر والمغرب والقوقاز وإندونيسيا ولم تنجح في تطوير إطارٍ متماسك لطرد الاستعمار.

ومنذ بدايات القرن العشرين وحتى عام 1970 ظهر قوميون علمانيون ظنُّوا – بدرجاتٍ متفاوتة – أنّ المشكلة في الإسلام ورفعوا راية العلمانية، وكانت النتائج كارثية في أغلب الأحيان، فشلت القومية، فعاد الناس من جديد لما يعرفونه ويسمعونه قبل هنهنات أمهاتهم: القرآن (الإسلام).

يدرس المؤلف ببعض التفصيل تجربة بوكو حرام في نيجيريا وحركة الشباب في الصومال، ويبيِّن بشكلٍ دقيق كيف تسبّب الشمال العالمي في أزمات الصومال ونيجيريا ودمار الدولتين. فأولًا حوّل الاستعمار البريطاني الملايين للمسيحية في نيجيريا، وعزل المسلمين الذين استعصوا عليه في شمال نيجيريا، وعندما أعلنت نيجيريا استقلالها كانت الحكومة مسيحية موالية للغرب، ومعادية للمسلمين ومهملة لمناطقهم.

أنشأ بعض الشباب – وهم سليلي إمبراطورية البرنو المسلمة التي حكمت شمال شرق نيجيريا وغرب تشاد طيلة 5 قرون- أنشأوا حركةً إسلامية في محاولةٍ منهم لتقديم خدماتٍ اجتماعية للمسلمين، لكنّ الحكومة النيجيرية قابلتهم بعنف شديد، وبدأت الحكومة بالعنف وكان ردّ الفعل الطبيعي بعد مقتل أشهر شيوخهم ومؤسس الحركة بدمٍ بارد وهو أسير، أن سعوا للانتقام، وهكذا دخلت نيجيريا في دوّامة العنف.

نفس التجربة بتفاصيل مختلفة قليلًا في الصومال، فقد دعمت أمريكا “أمراء الحرب” لكي يحاربوا المسلمين المعتدلين في الصومال، وكعادة مثل هذه التجارب، يخرج من الجماعة المعتدلة شبابٌ متحمّس يرفض الظلم والتنكيل، فيبدأ عمليات عسكرية مسلحة ضدّ الأهداف العسكريّة الأجنبيّة، وهكذا تردّت الصومال ونيجيريا في دوّامات العنف بسبب سياسات عالم الشمال الذي يعرِّف الإسلام باعتباره عدوّه في أيّ زمان ومكان.

يضرب المؤلف على ذلك مثالًا بالإسبان عندما وصلوا الفلبين. لم يقتربوا من الأديان الأخرى، وبدئوا مباشرةً بعمليات إبادة جماعية للمسلمين الذي أسموهم “المورو” نسبةً إلى مسلمي الأندلس المهجّرين “المورو-سكيين”.

ولتوضيح الأمر أكثر يختتم المؤلف بقوله: مثلما كانت المجتمعات الغربية تنظر إلى الشيوعية كقوة ثورية هائلة، فقد كان قادة بريطانيا وفرنسا وروسيا يعتبرون “الإسلامية العالمية” كذلك.

“لسنا أكثر معرفةً ولا حتّى لدينا الإطلاع مثل أهل الجنوب ، وذلك لأنّ الألم يحفّزهم بينما نحن (أهل الشمال) ليس لدينا ذلك الألم (الدافع).”

يضرب المؤلف مثال البراهمة العميان ليشرح سوء التفاهم الحاصل حاليًا بين عالم الشمال وعالم الجنوب المسلم، وهو أنّ أهل الشمال عُمي لا يرون من الفيل سوى ظاهر الخرطوم الذي يمسكونه بأيديهم، بينما لا يرى أهل الجنوب العميان سوى الذيل الذي يمسكونه أيضًا، بل يعتبرون أنّ هذا الذيل هو الخرطوم “استنادًا على ماضيهم العظيم”.

لكنّه أيضًا يعتبر أنّ مصدر كل هذه المشاكل هي الإمبريالية.

يحكي الكاتب أنّه جلس كثيرًا في جلسات الشاي على القهاوي في البلاد العربية واستمع للبسطاء، ويمكن أن يتلخّص رؤية الناس البسطاء حول مشاكلهم في سببين:

1-  الإمبريالية هي سبب كل مآسيهم.

2-  الإسلام هو طريق الخلاص.

يعقّب المؤلف بقوله: لسنا أكثر معرفةً ولا حتّى لدينا الإطلاع مثل أهل مقاهي الشاي، وذلك لأنّ الألم يحفّزهم بينما نحن (أهل الشمال) ليس لدينا ذلك الألم (الدافع).

وتحت عنوان ماذا فعل الجنوب لنفسه؟ يقول الكاتب أنّ الجنوب الآن منقسم بين اثنين لا ثالث لهما: العسكريون (خلفاء الإمبريالية) الذين جعلوا دولهم مجرّد سوق سلاح لصناعات الدفاعات العسكرية الشمالية، وبين الأصوليون الذين يقولون لأتباعهم لا تقلقوا المشكلة ليست في الإسلام، والإسلام لا يحتاج لأي “إصلاح” وهذا يقود بالضرورة لنتيجتين اثنتين:

الأولى: الشعور بالتشدُّد والجمود الذي وضع الأساس لتبرير العنف، ولذا فالعالم الإسلامي الآن في قبضة حالةٍ ذهنيّة تشبه التي كانت موجودة أثناء فترة الحروب الدينية في أوروبا.

الثانية: أنّ المسلمين عانوا من ضيق أفق عقول زعمائهم. وقد أدرك ذلك منذ القرن التاسع عشر كثير من المفكرين العرب والترك والإيرانيين والهنود والماليزيين وغيرهم، وحاولوا التواصل مع مواطنيهم ولكنّ مؤسساتهم الدينية نفسها كانت ضدهم.

ويختم هذه الجزئية بقوله: في الخلاصة، فشلت أغلب الأمم الإسلامية لأسبابٍ مختلفة مشتركة في خلق المؤسسات المدنيّة التي تُمكِّن من الانتقال إلى السلام والأمن، وتدفع مجتمعات العالم الإسلامي ثمنًا مخيفًا وباهظًا بسبب فشلهم وبسبب المساهمة الإمبريالية في هذا الفشل. كما يساهم المتطرِّفون المسلمون أيضًا في ذلك بضرباتهم العنيفة الشرسة ضدّ ما يعتقدون أنّه السبب.

ينهي خاتمته بمحاولته الإجابة على سؤال: أين نحن الآن، وإلى أين نستطيع الذهاب؟

أين نحنُ الآن؟ نحنُ جميعًا في منطقة انعدام الأمان (الشمال والجنوب معًا)، بالطبع هناك عدّة أسباب لهذه الانهيار، لكنّ أهمّ سببين من وجهة نظر الكاتب هما:

1-  تاريخ الإمبريالية الطويل. قرنٌ كامل أو أكثر من الغزو والاحتلال والإذلال والإبادة الجماعية، تركت آثارها ندباتٌ وجروح لم تندمل حتى الآن، ولا يمكن أن تشفى إذا أعيد فتحها باستمرار.

وقد أعيد فتح هذه الجروح بغزو أفغانستان والعراق وليبيا والصومال الذي مزّق المجتمعات المسلمة إلى أشلاء. فما يسميه الشماليون “تغيير النظام” كان في حقيقته تدميرًا لمؤسسات المجتمع المدني وإلغاءً للعقد الإجتماعي الذي ربط المواطنين ببعضهم وربطهم بدولتهم.

لهذا فإنّ “القوى المخربة الشريرة العنيفة” في العالم الإسلامي هي جزئيًا ردود أفعالٍ على الغرب وما جاء به من “مذلّة وإهانة”.

2-  السبب الثاني هو طرد إسرائيل الفلسطينيين من وطنهم. فإسرائيل بالنسبة للمسلمين وكيلة المستعمر (الشمال العالمي) الذي تركه لهم ليكمل دوره.

في النهاية يعتقد المؤلّف أنّ عالم الشمال المسيحي يجب أن يزيح الغشاوة من عينيه وينظر بطريقةٍ أفضل ويتخذ أفعالًا أفضل تجاه عالم الجنوب المسلم، وإلا فإنّ الاستنزاف مستمرّ من الطرفين، بالطبع ستكون الآثار مدمرة على الجنوب أكثر وأضعاف بمئات وآلاف المرّات، لكنّ الإمبريالية في ثوبها الجديد ستؤدي لمزيدٍ من الكراهية ولمزيدٍ من الخسائر بسبب الهجمات الإرهابية في وسط عواصم أوروبا وفي أمريكا، ويضرب بذلك مثالًا أنّ تكلفة هجمات سبتمبر/أيلول 2001 في أغلى الحالات فقد كلّفت منظميها ربع مليون دولار، بينما كانت خسائر أمريكا بسببها أكثر من تريليون دولار وآلاف الضحايا.

كان هدفي من سرد هذا الكتاب هو التوصُّل إلى هذا التصوُّر العام الشامل لأساس الإشكالية، ولعلّه نقطة انطلاقٍ على الأقلّ. هكذا ينهي ويليام بولك آخر كتبه قبل أن يموت بسنتين.